يفتح تفعيل المفاوضات بين الأطراف الليبية مرة جديدة، من بوابة المغرب كما حصل عام 2015، الباب أمام تحقيق تقدم نحو حل أزمة مستمرة منذ 9 سنوات، بعد انتهاء الجولة الثانية من جلسات الحوار الليبي بمدينة بوزنيقة، و"توافقات حاسمة في اتجاه اختيار شاغلي المناصب السيادية، وفقاً لما تنصّ عليه المادة 15 من الاتفاق السياسي (الصخيرات)". وبقدر ما كانت جلسات الحوار بالمغرب، في رأي الفرقاء الليبيين أنفسهم، تشكل رصيداً يمكن البناء عليه للخروج بالبلاد إلى الاستقرار وإنهاء حالة الانقسام المؤسساتي، فإنها كانت أيضاً عنواناً بارزاً لنجاح الدبلوماسية المغربية لجهة تمكنها من العودة بقوة إلى الملف الليبي، وتحقيق اختراق كبير لتقريب وجهات النظر بين طرفي الأزمة. وأدت تلك الجلسات إلى المساهمة في بناء الثقة من جديد بين طرفي النزاع، وإبراز أفضلية الحل السياسي على الحلول الأخرى، وتطوير أرضية مشتركة بين الطرفين تنطلق من النوايا ثم التفاهمات وبعدها الالتزامات.
العودة إلى اتفاق الصخيرات من أهم نجاحات الدبلوماسية المغربية
كما تشكّل العودة إلى اتفاق الصخيرات أهم نجاحات الدبلوماسية المغربية خلال جلسات الحوار، فبعد ارتفاع أصوات ليبية وإقليمية تلوح بنهاية الاتفاق، تمكنت الرباط من إقناع الليبيين بالعودة إلى طاولة الحوار بمدينة بوزنيقة من دون شروط، وذلك على قاعدة اتفاق الصخيرات الذي يشكل الاتفاق السياسي الوحيد الذي تستمد منه المؤسسات السياسية القائمة اليوم شرعيتها.
وعلى امتداد الأشهر الماضية، عملت الدبلوماسية المغربية جاهدةً على العودة لأداء دور الوساطة بين الأطراف الليبية المتصارعة، والتقريب بين وجهات نظرها. وهو ما تجلى في مباشرة وزير الخارجية ناصر بوريطة، في فبراير/ شباط، ومارس/ آذار الماضيين، مباحثات رسمية وأخرى عبر الهاتف، مع طرفي النزاع الرئيسيين في ليبيا: حكومة "الوفاق" ومعسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
واستطاع التحرك الدبلوماسي المغربي تجاوز عثرة إقصاء الرباط من المشاركة في مؤتمر برلين في يناير/ كانون الثاني الماضي، ومحاولات تحجيم دورها إقليمياً، فيما حالت الأزمة التي فرضها تفشي فيروس كورونا في العالم دون استكمال مساعي التحضير لمبادرة جديدة لحل النزاع في ليبيا، من خلال إيجاد نسخة منقحة من اتفاق الصخيرات.
وشكل الحراك الليبي الذي عرفته العاصمة المغربية في 26 و27 يوليو/ تموز الماضي، نقطة انطلاق لمسار بوزنيقة، بعدما استقبل رئيس مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي)، الحبيب المالكي، رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، الذي قاد وفداً رفيع المستوى يتقدمه وزير خارجية حكومة شرق ليبيا غير المعترف بها دولياً، عبد الهادي الحويج. في مقابل استقبال رئيس مجلس المستشارين المغربي عبد الحكيم بنشماس، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، برفقة كل من فوزي العقاب، وعلي السويح وعبد السلام الصفراني.
وكان واضحاً أن الحراك الدبلوماسي المغربي على امتداد الأشهر الماضية قد أفلح، في النهاية، بإطلاق مسار بوزنيقة في 6 سبتمبر/ أيلول الماضي، وجمع أطراف الأزمة الليبية بعد فترة طويلة من عرقلة العملية السياسية. وهو الأمر الذي كان حتى عهد قريب مستحيل التحقق، كما فتح آفاقاً واسعة لإمكانية تحقيق مصالحة تاريخية بين طرفي الصراع، وإطلاق دينامية جديدة لتحقيق تقدم في مسارات أخرى.
وإذا كان كثيرون يعتبرون ما حصل في مدينة بوزنيقة استنساخاً لتجربة الصخيرات، التي عرفت ميلاد الاتفاق السياسي في عام 2015 برعاية أممية، فإن نجاح الحوار الليبي الجديد في المغرب لم يكن بمحض الصدفة، وإنما كانت وراءه أسباب عدة ساعدت في ذلك. من أبرزها تبنّي الرباط منطق الحياد الإيجابي في الملف منذ بدايته، بتأكيدها الانفتاح على الأطراف الليبية كافة والاستماع إليها. وهو ما ساهم في نشر الثقة ليس فقط لدى المتفاوضين، بل حتى لدى المجتمع الدولي.
وفيما تحسب للمغرب قدرته على المحافظة على قنوات تواصل فاعلة مع كل أطراف الصراع الليبي، ومنها التشكيلات العسكرية، وكسب ثقة هذه الأطراف، عملت الرباط على توجيه رسائل طمأنة لمختلف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الساحة الليبية. وبدا ذلك جلياً من خلال المباحثات التي جمعت وزير الخارجية ناصر بوريطة، بكل من وزراء خارجية روسيا سيرغي لافروف وتركيا مولود جاووش أوغلو ومصر شكري سامح، بعد الجولة الأولى من جلسات الحوار الليبي بمدينة بوزنيقة المغربية.
وإذا كان الحياد الإيجابي للمغرب قد مكن، في لحظة فارقة من تاريخ الأزمة الليبية، من توفير مناخ سمح ببناء جسور الثقة بين المجلس الأعلى للدولة وبرلمان طبرق مجدداً، والعودة إلى طاولة الحوار، فقد كان لافتاً حرص الدبلوماسية المغربية خلال رعايتها جلسات الحوار الليبي في بوزنيقة، بتنسيق مع الأمم المتحدة، على عدم التدخل في مجرياته، والتأكيد، بالمقابل، على أن الحل يجب أن يكون ليبياً - ليبياً تحت المظلة الأممية.
تبنّت الرباط منطق الحياد الإيجابي في الملف الليبي منذ بدايته
ويبدو هذا التوجه المغربي أكثر وضوحاً في كلمة وزير الخارجية ناصر بوريطة، خلال الندوة الصحافية التي تلت اختتام الجولة الثانية للحوار الليبي ببوزنيقة، أول أمس الثلاثاء. فقد قال إن من مقومات نجاح الحوار "كونه حواراً ليبياً ـ ليبياً، وليس حواراً حول ليبيا؛ وضعه الليبيون من دون تأثير أو تدخل، وهو ما يعد عنصراً أساسياً باعتباره يفسح المجال لليبيين ليصلوا إلى توافقات". واعتبر أن وفدي الحوار في بوزنيقة أثبتا أن "هذه المقاربة ناجعة وتؤكد أن ليبيا لا تحتاج لوصاية أو تدخل".
وسمح دعم الرباط للحوار الليبي ـ الليبي، كمسار منطقي لتحقيق تقدم للخروج بتسوية نهائية للأزمة، بالتوصل إلى خريطة طريق بشأن كيفية تقاسم السلطة وتحديد معايير تولي المناصب السيادية في أفق إنهاء الانقسام المؤسساتي. ويبقى أيضاً من أبرز مقومات نجاح الحوار الليبي بالمغرب، حرصه على الحفاظ على مكتسبات الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات، لكن مع تطويره في مخرجات مسار بوزنيقة. وراهن أيضاً على المؤسسات الشرعية في ليبيا، وهي المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، باعتبارهما "نواتين أساسيتين" لأي حل في ليبيا انطلاقاً من شرعيتهما وروح المسؤولية التي تميزهما، بحسب وزير الخارجية المغربي.
ويعتبر المغرب الاتفاق السياسي الموقع عليه في الصخيرات في 2015 بإشراف المبعوث الأممي إلى ليبيا حينها مارتن كوبلر، لإنهاء الحرب الليبية، إنجازاً تاريخياً مهماً يُحسب لدبلوماسيته ولقدرته على المحافظة على قنوات تواصل فاعلة مع كل أطراف الصراع الليبي. ويؤكد أن اتفاق الصخيرات "لا يزال مرجعاً مرناً بما يكفي لإدراك الوقائع الجديدة"، وأن "تكاثر المبادرات حول الأزمة يؤدي إلى تنافر بينها".