لم تفلح أزمة كورونا في جمع كلمة التونسيين، وفشل آلاف الضحايا في إقناع المسؤولين عن البلاد بتأجيل خلافاتهم ولو لفترة، وعلى العكس من ذلك، تحوّلت الجائحة واللقاحات إلى مادة صراع بدأ بارداً، ثم تحول إلى حرب مفتوحة في الأيام الأخيرة، بين الرئيس قيس سعيّد وخصومه؛ رئيس الحكومة هشام المشيشي ومن يدعمونه.
نهاية الشهر الماضي، قال الرئيس قيس سعيّد لضيفته، النائبة السابقة مباركة البراهمي: "تم وضع 25 جهاز تنفس اصطناعي على ذمتنا في ألمانيا، ولكنهم حاولوا خلق المشكلات لتعطيل جلبها إلى تونس حتى لا تُحسب لرئاسة الجمهورية".
واعتبر سعيّد أن "بعض السياسيين من نفس سلالة كورونا الجديدة، يتلونون ويتقلبون كما يريدون". وهكذا تحولت كورونا إلى مجال للتنابز اللغوي والسياسي، والأوكسجين واللقاحات إلى مادة للتسابق بين الرئاسة والحكومة، ويلاحظ التونسيون يومياً وصول طائرات دعم من دول صديقة وشقيقة، لكن مستقبليها من المسؤولين في المطار يتغيرون بحسب كونها إما نتيجة لمساعٍ من رئاسة الجمهورية أو من الحكومة. ومنذ أشهر والمسؤولون التونسيون في تنافس غريب الأطوار، فأي مجال سياسي للتنافس على القتلى والمرضى والمحرومين من لقمة العيش، غير تبادل الاتهامات لتحميل المسؤولية، دون أن يراعي أي طرف معاناة الناس عدا شعارات فضفاضة للاستهلاك الفيسبوكي، يتنافسون على موقع المنقذ عندما تنفرج الأزمة ويتناسون فاتورة آلاف الموتى الذين قضوا.
ومع إقالة وزير الصحة، فوزي المهدي، الثلاثاء، تحوّل الميدان السياسي إلى حلبة صراع، يتهم فيها الرئيس سعيّد سياسيين لم يسمهم بالقتل العمد والجريمة المتعمدة المقصودة المعدّ لها سلفاً مع سبق الإصرار، فيما يتهم رئيس الحكومة وزيره المقال بالتقصير الفاضح الذي يرتقي إلى الجريمة، وتتداول وسائل التواصل الاجتماعي مراسلات رسمية، ما يعكس وضعية الانحدار التي وصلت إليها البلاد.
وتؤكد مصادر قريبة من رئيس الحكومة أن المشيشي كلّف وزيرة العدل بالنيابة بإثارة دعوى قضائية بخصوص فتح مراكز اللقاح بصورة عشوائية دون توفير الجرعات اللازمة للفئة العمرية التي تم توجيه النداء إليها للتلقيح، ودون التنسيق مع السلطات المركزية والجهوية الصحية والأمنية يوم عيد الأضحى، مما خلق حالاً من الفوضى والاكتظاظ زمن الوباء ليتسبب في العدوى والضرر بصحة المواطنين.
ورداً على ذلك، يستقبل الرئيس قيس سعيّد، الوزير المقال، فوزي مهدي، ليؤكد أنّه قام بدعوته "ليبيّن دوره والعمل الكبير الذي قام به مع الصحة العسكرية والقوات المسلحة الأمنية خلال تقلّده حقيبة وزارة الصحّة لمدّة 10 أشهر في ظرف صعب بسبب جائحة كورونا".
وأكّد سعيّد أنّ البعض يسعى لبثّ الفوضى لاتهام أشخاص بالفشل، متسائلاً: ''فيمَ فشل فوزي مهدي؟ أم لأنهم يدعون أنه محسوب على رئيس الجمهورية؟".
ويؤكد سعيّد بدوره أنّ "تحقيقاً سيتمّ فتحه ليتحمّل كل طرف مسؤوليته… فبعدما بدأت تتقلص أعداد الإصابات بالفيروس، وتقلصت حالات العدوى خلقنا سبباً جديداً للعدوى وللموت... يعتقدون أن الشعب التونسي يمكن أن يكون أضحية في العيد".
ويرد القيادي بحركة "النهضة"، سامي الطريقي، بأن ما حصل من تدافع وتجمعات كبيرة أمام مراكز اللقاحات، جريمة، قال إنها تفترض تحقيقاً عسكرياً مع وزير الصحة المُقال فوزي المهدي. وأضاف الطريقي في تدوينة على صفحته على "فيسبوك": "نعم سيدي الرئيس، ما وقع جريمة ويفترض تحقيقاً عسكرياً باعتبار أن السيد الوزير ينتمي إلى المؤسسة العسكرية".
وأضاف: "رئيس الجمهورية يتساءل عمن قام بتجميع كل الناس في توقيت واحد أمام المراكز يوم العيد، وتساءل عمن دعاهم. ثم انتهى إلى أن تلك جريمة. الجواب فخامة الرئيس بكل بساطة أن من جمعهم هو السيد وزير الصحة، فقد أعلن عن القرار أمام الجميع في ندوة صحافية. وبلاغات وزارة الصحة كلها واضحة لا لبس فيها، التلقيح المفتوح قرار شعبوي وإجرامي".
وتعليقاً على هذه الفوضى الكبيرة، قال المحلل السياسي، قاسم الغربي، في تصريح لـ"العربي الجديد" إن وزير الصحة فوزي المهدي هو آخر وزراء الرئيس سعيّد في الحكومة، ورئيس الحكومة يبدو أنه قرر منذ فترة إقالة المهدي ولكنه لم يتمكن من ذلك سابقاً".
وأوضح أن "رئيس الحكومة تحين الفرصة أمامه لإقالة وزير الصحة بعد خطأ الدعوة للأبواب المفتوحة للتلقيح بشكل فوضوي"، مؤكداً أنه "يبدو أن البلاد تتجه نحو انفراج صحي بوصول كميات مهمة من اللقاحات، وبالتالي كان على الحكومة التخلص من وزير الصحة حتى لا يحسب النجاح له، أي على طرف قريب من رئيس الجمهورية".
وأشار الغربي إلى أن "الحزام السياسي يطالب أيضاً بإقالة وزير الصحة منذ مدة، وهناك حديث عن عودة الوزير السابق عبد اللطيف المكي، ولكن برأيي لن يعود إلا في إطار اتفاق سياسي، ومع الأسف كانت هناك توقعات بانفراج سياسي بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب بعد اللقاء الأخير، ولكن مع هذه التطورات حصل ارتداد جديد".
وبيّن الغربي أنه "بإقالة وزير الصحة وتصريح رئيس الجمهورية خلال لقائه بالوزير المقال دخلنا في دوامة جديدة من الصراع لا تعرف مآلاته"، مضيفاً أن "وزير الصحة عسكري، وهناك رغبة من رئاسة الجمهورية بإعطاء الملف الصحي للمؤسسة العسكرية". ولفت إلى أن "هذه الأزمة تبيّن أننا وصلنا إلى درجة مؤسفة من اللادولة"، متسائلاً عن "مآلات هذا الصراع وآفاقه"، ومذكراً بالصراعات السابقة مع الراحل الباجي قائد السبسي، مشدداً على أنه "رغم صراعه مع النهضة فقد كانت هناك آفاق وأهداف، ولكن لا أفق للصراع الحالي بين رئاسة الجمهورية والحكومة، فلا الرئيس قادر على حل البرلمان ولا الحكومة قادرة على إقالة رئيس الجمهورية، وبالتالي فالحل يكمن فقط في الجلوس معاً وإلا فالفوضى". وأفاد بأن "الدعوات للتظاهر يوم 25 يوليو/تموز، ورغم مؤشرات واضحة على فشلها، ليست سوى محاولة لإحداث الفوضى".
وحول إن كان الحل سيأتي من الخارج بسبب الانسداد في الداخل؛ ذكّر الغربي بأنه "في حال وجود اتفاق فرنسي أميركي فسنتجه نحو حل، وللأسف السياسة أصبحت تدار بتدخلات أجنبية، بمعنى لبننة الأزمة في تونس، وسنتعود في تونس على القبول بالتدخل الأجنبي الذي سيصبح جزءاً من الحل".