كشفت مصادر دبلوماسية لـ"العربي الجديد" عن فحوى اللقاءات التي أجراها المبعوث الأميركي الخاص بالقرن الأفريقي جيفري فيلتمان في القاهرة، يوم الأربعاء الماضي، في مستهل جولته. وأفادت بأن الاجتماعات، التي تمحورت حول قضية سد النهضة والصراع في الداخل الإثيوبي، اتسمت بالصراحة. وأشارت إلى أن الجانب المصري، تحديداً رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، أبلغ فيلتمان أن "كل الاحتمالات أمام مصر مفتوحة، طالما ستؤدي للحفاظ على مقوماتها الاستراتيجية ومنع حدوث أضرار جسيمة للشعب المصري". وشدّد على أن الموقف المصري "أوصل خلال اللقاءات بلا مواربة وبأقل قدر من البرود الدبلوماسي، نظراً لإيمان الجانب المصري بأن الفترة الحالية هي الأكثر ملاءمة لإجبار إثيوبيا على تقديم تنازلات مكتوبة، في مجال المفاوضات على اتفاق دائم على قواعد الملء والتشغيل".
البيت الأبيض لا يملك وجهة نظر متماسكة عن الخطوات الواجب فعلها
وأضافت المصادر أن المبعوث الأميركي خلال الزيارة لم يعرض الكثير من المعطيات. وهو ما يؤشر إلى أن البيت الأبيض لا يملك وجهة نظر متماسكة عن الخطوات الواجب فعلها في المستقبل القريب للعودة لمسار المفاوضات الإيجابية. مع العلم أن الكفة في الوقت الحالي داخل دائرة الرئيس جو بايدن، بدأت تميل إلى التدخل المباشر لإنقاذ الموقف وحل الأزمة، بعد إلحاح مصري وسوداني. وأوضحت المصادر أن المبعوث الأميركي استفسر من الجانب المصري عن مدى موافقته على احتمال العودة لطاولة المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي ورئاسة الكونغو الديمقراطية. كما استفسر عن التوقعات في حال الدعوة لجولة تفاوض في واشنطن، في ظلّ حماس مصري ـ سوداني لذلك. وطلب فيلتمان أيضاً إيضاحات حول تفاصيل فنية خاصة بالفوارق الحالية في موقف التفاوض بين الاتفاق الفني والاتفاق القانوني، وعن البدائل المتاحة للتوصل إلى اتفاق قبل إتمام عملية الملء الثاني المقرر في يوليو/تموز المقبل.
وأشارت المصادر إلى أن المصريين أبلغوا فيلتمان محددات موقفهم، الذي يشمل ضرورة ضمان الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى، كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، لجدية مشاركة إثيوبيا في أي مفاوضات لاحقة، سواء كانت برئاسة الاتحاد الأفريقي أو غيره. أما المحدد الثاني، فيتمحور حول ضرورة العودة إلى مسودة اتفاق واشنطن، التي وقّعتها مصر منفردة بعد جولة التفاوض التي انتهت ربيع العام الماضي، للانطلاق منها كمرجعية فنية قانونية مقبولة يمكن إجراء تعديلات عليها في أضيق الحدود، مع قابليتها للتطبيق على الوضع الحالي، وتضمنها مزاوجة فنية سليمة بين الاعتبارات التقنية والقانونية.
والمحدد الثالث هو الرفض المطلق لأي اتفاق مؤقت أو بديل لتمرير فترة الملء الثاني، بما في ذلك العروض الإثيوبية والمقترحات الإماراتية السابقة بتبادل المعلومات وإدارة فترة الملء بالشراكة بين الدول الثلاث (مصر، السودان، إثيوبيا). وهو ما ركز عليه المبعوث الأميركي، باعتباره أمراً محورياً، يجعل مساعيه في هذا التوقيت على قدر كبير من الحساسية والدقة. وبشأن التهديدات العسكرية المصرية التي أطلقها السيسي، ثم تعمّد تخفيف تصريحاته عنها. وهو أمر يوليه الأميركيون اهتماماً كبيراً، إذ ذكرت المصادر أن هناك قلقاً واضحاً في واشنطن من إمكانية الوصول إلى هذا الاحتمال. ورداً على تساؤلات المبعوث عنه، أكد الجانب المصري أن الاحتمال العسكري "غير مفضل بطبيعة الحال" وسابق لأوانه، لكن كل الاحتمالات مفتوحة، طالما استمر التعنت الإثيوبي.
وحول إمكانية قبول مصر بوساطات إقليمية معينة ربما تدعم التحركات الأميركية، التي تأخذ حالياً إحدى صور الوساطة الأولية من دون التدخل في الأمور الفنية والقانونية، نقلت المصادر عن الجانب المصري تأكيده لفيلتمان، دعم مصر لجميع الوساطات الفردية والمنظّمة من السعودية والإمارات وإريتريا وأوغندا. وأضافت أن القاهرة منفتحة على كل الوساطات لضمان عدم الإضرار بدولتي المصب (السودان، مصر). كما أبدى الجانب المصري استعداده لوساطة أممية، عبر تعيين لجنة من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتكون مختصة بفحص الموقف قانونياً وفنياً.
تعتمد إدارة بايدن على "الحياد الإيجابي" حتى الآن
وتستمر جولة فيلتمان بشأن سد النهضة والأوضاع الإثيوبية أسبوعاً آخر، يزور خلاله الخرطوم وأسمرة وأديس أبابا. وبحسب المصادر فإنه من الوارد عودة فيلتمان إلى القاهرة في نهاية الجولة إذا تطلب الأمر ذلك، لأنه أكد أن "القرار الأميركي في التحركات الحالية لن يتأخر كثيراً لارتباط القضية بمواعيد يمكن أن يترتب على فواتها سلبيات جسيمة".
وسبق أن كشفت "العربي الجديد" عن تفاصيل اجتماع مبعوث الإدارة الأميركية للسودان دونالد بوث بمسؤولي البيت الأبيض والخارجية في ختام الجولة التي أجراها في القاهرة والخرطوم وأديس أبابا في مارس/آذار الماضي. وحينها، انقسم موقف الإدارة الأميركية مع اقتراح بوث إجراء مفاوضات في واشنطن، مع اعتبار فريق داخل الإدارة أن التدخل الأميركي بات ضرورياً لأن مصالح واشنطن في كل من الدول الثلاث أصبحت على المحك. ومن الدوافع التي ساقها هذا الفريق، هو أن التهديدات المصرية بالحل العسكري جدّية، رغم عرقلتها بحسابات إقليمية ودولية كبيرة، يمكن أن تترتب عليها عواقب جسيمة. لكن هذه التهديدات يمكن أن تأخذ أشكالاً أخرى تخريبية، فضلاً عن التنافس المصري ـ الإثيوبي على استقطاب دول المنطقة في شكل اتفاقيات ثنائية وعسكرية، ما سيؤدي إلى زيادة استيراد البلدين للأسلحة من روسيا تحديداً.
لكن الفريق الثاني الذي يبدو أقوى حتى الآن داخل البيت الأبيض، فيفضل الحياد السلبي تجاه القضية، في استمرار للموقف الذي اتخذته إدارة بايدن في فبراير/شباط الماضي، عندما قررت إلغاء ربط تعليقها مساعدات تبلغ قيمتها 272 مليون دولار إلى إثيوبيا بالنزاع حول سد النهضة، وربطها بالنزاع الأهلي الداخلي في إقليم تيغراي. وهو ما فسرته مصر آنذاك بأنه رسالة مشتركة للقاهرة وأديس أبابا، بالتزامها "الحياد السلبي في المرحلة الحالية" إزاء ملف سد النهضة، خصوصاً إذا وُضع القرار الخاص بإثيوبيا في سياق متصل بالقرار الصادر قبله بالموافقة على صفقة بيع صواريخ "بلوك 2" مع معدات ذات صلة بتكلفة تقديرية تبلغ 197 مليون دولار، لمصر.