تتصاعد التعقيفدات المرتبطة بأزمة مياه النيل في ظل تحركات الأيام الماضية، بدءاً من كينشاسا التي استضافت على مدار ثلاثة أيام اجتماعاً برئاسة رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي، بصفته رئيس الاتحاد الأفريقي، وحضور وزراء الخارجية والمياه بكل من مصر والسودان وإثيوبيا، حول سبل استئناف التفاوض على اتفاق تشغيل وملء سد النهضة، مروراً بأديس أبابا التي بدأت فعاليات مختلفة بالتوازي مع استئناف المفاوضات بهدف تجديد الضغط الدبلوماسي والدعائي على مصر، ووصولاً إلى دولة جنوب السودان، الذي شهد مستجداً، ربما يؤدي دوراً سلبياً بالنسبة لمصر والسودان، وإيجابياً بالنسبة لإثيوبيا، على عكس ما كانت تنبئ عنه التطورات في العلاقة بين مصر وجنوب السودان خلال الفترة الماضية.
وحصلت "العربي الجديد" على بيان صادر من السفارة الإثيوبية في جوبا، ورد فيه أن وزير الري في جنوب السودان ماناوا بيتر قال إن بلاده "تدعم حقوق إثيوبيا في الاستفادة بمواردها الطبيعية"، معلناً أنها "سوف توقع على الاتفاق الإطاري لحوض النيل، وستصادق عليه بمجرد انعقاد البرلمان". ويحمل هذا البيان تطوراً كبيراً كانت إثيوبيا في أشد الحاجة إليه، لدعم جهودها الموجهة ضد دولتي المصب، مصر والسودان، لإدخال الاتفاق الإطاري حيز التنفيذ، أولاً ليلغي تحكم دولتي المصب في نصيب الأسد من المياه المتدفقة من دول المنبع، ويلغي عملياً الاتفاقيات السابق إبرامها في 1902 و1959 و1993، ويُحرر دول المنبع من القيود التي كانت تمنعها في الماضي من إقامة السدود والخزانات على نطاق واسع، وثانياً لتكون مقدمة لإجبار الدولتين على محاصصة جديدة لمياه النيل بالتوازي مع التوصل إلى اتفاق سد النهضة.
مصادر مصرية: اجتماعات كينشاسا لم تحرك المواقف الإثيوبية
وإذا صادقت دولة جنوب السودان رسمياً على الاتفاق، فسوف يرتفع عدد الدول المصدقة إلى خمس، هي: أوغندا، وإثيوبيا ورواندا عام 2013، وتنزانيا عام 2015، بالإضافة إلى دولتين أخريين أعلنتا نيتهما التصديق برلمانياً على الاتفاق، بعدما وقعتا عليه بالفعل، وهما كينيا وبوروندي. ويحتاج هذا الاتفاق، لدخوله حيز التنفيذ وإيداعه لدى الاتحاد الأفريقي تصديق ست دول فقط. ولطالما عارضت مصر والسودان التوقيع عليه، وحاولت القاهرة تحديداً استخدام المساعدات، بمختلف أنواعها، لإقناع الدول المعنية بعدم التوقيع أو عدم التصديق، لحين الاتفاق الشامل على جميع بنوده، وتعديل البنود المثيرة للجدل، خاصة بعدما وقعت بوروندي، لتزيد من احتمالية دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وغموض موقف الكونغو الديمقراطية، التي لم توقع حتى الآن، رغم إعلانها تأييد الاتفاق.
مساعدات مصرية
وبعد توقيع بوروندي، في مارس/آذار 2011، على الاتفاق، عملت الأجهزة السيادية والدبلوماسية المصرية على إنشاء كيان مؤسسي يتولى المسؤولية الكاملة لإدارة الملف مباشرة على مستوى الدولة، ووضع استراتيجيات للتعاون الثنائي بين مصر وكل دولة على حدة، في مجال الدعم الفني واللوجستي، مع التركيز على تقديم الدعم المناسب لحكومة الكونغو الديمقراطية لتثبيت موقفها بعدم التوقيع.
وفي عام 2017 وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإنشاء صندوق مصري، تديره وزارة الخارجية، بإشراف من المخابرات العامة، لتمويل مشاريع بدول الحوض، وذلك من خلال دمج أو شراكة مع بنك التنمية الأفريقي، مع زيادة التسويق الإعلامي للأنشطة المصرية بدول الحوض بشكل عام، إلى جانب إطلاق مشاريع مشتركة مع دول الحوض الرئيسية، والتركيز على التعاون في الملف التنموي بين مصر وهذه الدول، وإقامة مؤتمرات مشتركة في جميع المجالات، وزيادة المساعدات الطبية والتعليمية، خاصة في ظل جائحة كورونا الحالية.
وعقب توقيع بوروندي، أعلن المتحدث الإقليمي باسم مبادرة حوض النيل، ومقرها عنتيبي بأوغندا، أنه وبموجب القانون الدولي الساري كان لا بد من أن توقع ست من الدول الأطراف على الاتفاقية قبل أن يجري إقرارها في برلماناتها. ومن المتوقع أن تتم المصادقة عليها في جميع البرلمانات الستة، لكن حتى الآن لم يصادق البرلمان البوروندي، الأمر الذي يزيد من أهمية موقف دولة جنوب السودان، الذي نقلته إثيوبيا، ولم تعلنه جوبا رسمياً.
كما سيؤدي هذا الوضع إلى تأزم موقف مصر والسودان المتفقتين على رفض عدد من البنود، والمطالبة بأن تتضمن الاتفاقية في البند 14 ب، الخاص بالأمن المائي، نصاً صريحاً، يضمن عدم المساس بحصة مصر في مياه النيل وحقوقها التاريخية في مياه النيل. وذلك من خلال الإشارة للاتفاقيات التاريخية الموقعة بين القاهرة ودول حوض النيل، وبين مصر والسودان. وأن يتضمن البند رقم 8 من الاتفاق، والخاص بالإخطار المسبق عن أي مشاريع تقوم بها دول أعالي النيل، اتباع إجراءات البنك الدولي في هذا الشأن صراحة، وأن يتم إدراج هذه الإجراءات في نص الاتفاقية، وليس في الملاحق الخاصة بها. كما تطالب مصر إلى جانب السودان بأن يتم تعديل البندين رقم 34 أ و34 ب، بحيث تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أي من بنود ملاحق الاتفاقية بالإجماع وليس بالأغلبية. وفي حالة التمسك بالأغلبية، فيجب أن تشمل الأغلبية دولتي المصب، مصر والسودان، لتجنب عدم انقسام دول حوض النيل، ما بين دول المنابع، التي تمثل الأغلبية، ودولتي المصب اللتين تمثلان الأقلية.
"فشل" اجتماع كينشاسا
ويبدو أن الاتفاق الإطاري، ومطالبة إثيوبيا بالمحاصصة الجديدة، كانا حاضرين بقوة في اجتماعات كينشاسا المتعاقبة، على خلفية النقاشات التي لم تفض لشيء حتى مساء أمس، ولم تؤد إلى تحريك المواقف الإثيوبية المتعنتة، بحسب مصادر دبلوماسية مصرية. وأكدت المصادر أن النقاشات جعلت من شبه المستحيل اتباع آلية الرباعية الدولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة) المقترحة من السودان ومصر، على أن يقتصر دور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي على المراقبة والتسهيل في بعض المواضيع من خلال الخبراء فقط.
وأوضحت المصادر أن إثيوبيا أسهبت من خلال حديث وزير الري سيليشي بيكيلي، خلال اجتماع أمس الأول الأحد، في الحديث عن ضرورة الالتزام بمبدأ "الاستخدام المنصف والمناسب" (للموارد المائية المشتركة)، وهو المبدأ الرابع من اتفاق المبادئ حول سد النهضة، المبرم في مارس/آذار 2015، كنوع من الهجوم التكتيكي على المطالبات المصرية السابقة باحترام هذا المبدأ تحديداً. وزعم بيكيلي أن بلاده سوف تستخدم مواردها المائية المشتركة مع مصر والسودان بأسلوب "منصف ومناسب"، مع الأخذ في الاعتبار "جميع العناصر الاسترشادية ذات الصلة المقررة في الاتفاق"، وهي العناصر الجغرافية، والجغرافية المائية، والمناخية، والبيئية وباقي العناصر ذات الصفة الطبيعية، والاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لدول الحوض المعنية، والسكان الذين يعتمدون علي الموارد المائية في كل دولة من دول الحوض، وتأثيرات استخدامات الموارد المائية في إحدى دول الحوض على دول الحوض الأخرى، والاستخدامات الحالية والمحتملة للموارد المائية، وعوامل الحماية والتنمية واقتصاديات استخدام الموارد المائية، وتكلفة الإجراءات المتخذة في هذا الشأن، ومدى توفر البدائل، ذات القيمة المقارنة، لاستخدام مخطط أو محدد، ومدى مساهمة كل دولة من دول الحوض في نظام نهر النيل، وامتداد ونسبة مساحة الحوض داخل إقليم كل دولة من دول الحوض.
ستطلق إثيوبيا مرحلة جديدة من فعاليات حشد التأييد الدولي
وأضافت المصادر أن هذا الخطاب يريد الوصول إلى أحقية إثيوبيا في الاستخدام السيادي لسد النهضة، طالما لم تثبت مصر والسودان وقوع ضرر عليهما خلال مراحل الملء التي ستتم في سنوات الرخاء والفيضان الغامر الحالية. وبالتالي فهو يرمي إلى نقل عبء إثبات الضرر على دولتي المصب، وإخلاء ساحة بلاده من المسؤولية، طالما لم يكن لاستخداماتها تأثيرات سلبية.
موقف مصري سوداني موحّد
وذكرت المصادر أن مصر والسودان أبدتا موقفاً موحداً إزاء ضرورة التوصل إلى اتفاق شامل قبل الملء الثاني، وأنه لم يتم طرح المقترحات التي تم التداول بها الأسبوع الماضي، خلال الاتصالات التي انخرطت فيها الإمارات -ونشرت تفاصيلها "العربي الجديد" في 31 الشهر الماضي- في صورة اتفاق ثلاثي مؤقت، بامتداد فترة الملء الثاني إلى شهرين، كحد أقصى، مع عدم اضطرار الدول الثلاث إلى عقد مفاوضات مطولة جديدة حول قواعد الملء والتشغيل قبل الملء الثاني، ومن ثم تأجيل المفاوضات الأساسية -المستمرة بفشل ذريع منذ 10 سنوات- إلى ما بعد هذه المرحلة من الملء. وسيتبع هذا الأمر عملياً توليد الكهرباء للمرة الأولى، واستكمال النسبة الباقية من الإنشاءات والتركيبات، والتي لا تزيد حالياً عن 20 في المائة، فضلاً عن امتناع الكونغو الديمقراطية، بصفتها رئيس المفاوضات، عن طرح مثل هذه المقترحات.
ووصف وزير الخارجية المصري سامح شكري الجولة التي بدأت في كينشاسا، ومن المتوقع استمرارها لأسابيع، بأنها "الفرصة الأخيرة"، ويجب على جميع الدول اقتناصها من أجل التوصل لاتفاق على ملء وتشغيل سد النهضة خلال الأشهر المقبلة وقبل موسم الفيضان. وأشار إلى أن "مصر تفاوضت على مدار عشر سنوات بإرادة سياسية صادقة، من أجل التوصل لاتفاق يحقق لإثيوبيا أهدافها التنموية ويحفظ في الوقت ذاته حقوق ومصالح دولتي المصب".
تحرك دبلوماسي إثيوبي
وبالتزامن مع مباحثات كينشاسا، علمت "العربي الجديد" أن وزارة الخارجية الإثيوبية حددت مواعيد خلال الأسبوع الحالي والمقبل لعقد لقاءات عن بعد، بقيادات وزارات الخارجية في عدد من الدول الآسيوية والأوروبية، وقيادات سياسية أميركية ديمقراطية وجمهورية، للتعريف بـ"محددات الموقف الإثيوبي من سد النهضة وحق الشعب الإثيوبي في الاستفادة من موارده الطبيعية"، في مرحلة جديدة من فعاليات حشد التأييد الدولي. ومن المتوقع أن تثير أديس أبابا، خلال هذه الفعاليات، مسألة حقها في التصدي للتهديدات المصرية الأخيرة، بحسب مصادر دبلوماسية مصرية، قالت إن "القاهرة تتابع التحركات الإثيوبية في هذا السياق، وسترد عليها بالطريقة المناسبة".
ويوم الثلاثاء الماضي، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن "العمل العدائي ضد أي دولة قبيح، وله تأثيرات تمتد لسنوات"، لكنه أضاف في لهجة تصعيدية غير مسبوقة، ملوحاً بالحل العسكري للمرة الأولى: "محدش يقدر ياخد نقطة مياه من مصر، ولو حصل فالمنطقة ستدخل في حالة عدم استقرار لا يتخيلها أحد... ومحدش يتصور إنه بعيد عن قدرة مصر". وأضاف السيسي، في مؤتمر صحافي في قناة السويس، أن ملف المياه يشغل المصريين ويشغله بشدة، وأن القاهرة ماضية في خيار التفاوض بجدية وبصورة تحقق الربح للجميع، وأنها لا تهدد أحداً، ولكن المساس بالمياه بالنسبة لمصر خط أحمر. وبعد ذلك بساعات، نفذت مصر والسودان فعاليات التدريب الجوي المشترك "نسور النيل – 2" بقاعدة مروي الجوية بالسودان، بمشاركة عناصر من القوات الجوية وقوات الصاعقة بكلا البلدين "لتحقيق أقصى استفادة ممكنة للعناصر المشاركة في التخطيط والتنفيذ لإدارة العمليات الجوية، وقياس مدى جاهزية واستعداد القوات لتنفيذ عمليات مشتركة على الأهداف المختلفة" حسب بيان مصري.