تواجه الاتصالات الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان لاستئناف مفاوضات ملء وتشغيل سد النهضة العديد من العقبات السياسية والفنية، أخطرها حالة التلاسن غير المباشر بين القاهرة وأديس أبابا. فقد حمّل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد "جهات لم يحددها" مسؤولية إشعال الأوضاع على الحدود السودانية الإثيوبية المشتركة خلال المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وعصابات الشفتة المدعومة من الجيش الأثيوبي في شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي. وجاء موقفه بعد أيام من إصدار وزارة الخارجية المصرية بياناً يؤكد حق السودان في طرد القوات والمليشيات الإثيوبية من أراضيه والالتزام بالاتفاق الحدودي الموقع عام 1903. وتزامن ذلك مع حملة صحافية إثيوبية ترافقت مع تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي تحمّل مصر مسؤولية المواجهات الحدودية وكذلك دعم قومية التيغراي ضد حكومة آبي أحمد في الأزمة الداخلية الطاحنة التي تشهدها إثيوبيا.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية إنه على الرغم من اتفاق الدول الثلاث ضمنياً على الفصل بين الأزمات السياسية الداخلية والبينية ومسار التفاوض بشقيه الفني والقانوني، إلا أن الأحداث الأخيرة أدت إلى تعثر الاتصالات لاستئناف المفاوضات التي كان من المقرر عقد اجتماعين بشأنها الأسبوع الماضي. وبحسب المصادر نفسها فإنّ اجتماعاً بين مديري الاستخبارات في الدول الثلاث وآخر بين وزراء الري كانا سيعقدان خلال الأسبوع الماضي، لكن بسبب البيانات العدائية غير المباشرة وانتهاء اجتماع ترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان من دون نتائج، تم إرجاء اللقاءين إلى أجل غير مسمى.
مصر ترى أن آبي أحمد يضخم من تأثيرها على الوضع الإثيوبي
وأشارت المصادر إلى أنّ حالة الانقسام المسيطرة على مكونات الحكم في السودان تؤدي دوراً كبيراً في عدم استقرار الخرطوم على موقف محدد مع مصر أو إثيوبيا، ليس فقط في ما يتعلق بأزمة سد النهضة، بل أيضاً في مقاربة الأزمة الحدودية.
ويتخذ بعض القادة في مجلس السيادة، وعلى رأسهم النائب الأول لرئيس المجلس، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مواقف مناوئة لآبي أحمد، ويرون أن الفترة الحالية، والتي يتعرض فيها رئيس الوزراء الإثيوبي لضغط غير مسبوق داخلياً، هي الأنسب لتسوية المشاكل الحدودية بين البلدين، على الرغم من وجود تفاهمات أخرى بين آبي أحمد ورئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك على إرجاء الحل النهائي لتلك المشاكل.
وذكرت المصادر نفسها أنه خلال الاتصالات الاستخبارية بين الدول الثلاث قبل أسبوعين تمهيداً لاستئناف مفاوضات سد النهضة، علمت القاهرة أن قيادات سودانية، حريصة على العلاقات بإثيوبيا منذ رعاية آبي أحمد لاتفاق تشكيل مجلس السيادة بين العسكريين والمدنيين، أبلغت أديس أبابا بمسؤولية حميدتي عن توتر الأوضاع حول الحدود. وأشارت هذه القيادات إلى أنه من يتولى إدارة الحملة لاستعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليها والتي تستحوذ عليها مليشيات إثيوبية واقعياً منذ أكثر من ربع قرن. وهو ما اتخذه آبي أحمد ذريعة لاتهام مصر بالوقوف وراء الحملة في هذا التوقيت.
وبعيداً عن علاقات الاستخبارات المصرية الممتدة صعوداً وهبوطاً مع القوى القومية في الداخل الإثيوبي، خصوصاً قومية الأورومو التي ينتمي لها آبي أحمد وكانت مصر تستضيف عدداً من قياداتها المنفيين والمطاردين خلال حكم التيغراي لإثيوبيا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أكدت المصادر المصرية أن رئيس الوزراء الإثيوبي يحاول تضخيم تأثير القاهرة على الوضع الداخلي في بلاده، وكذلك على علاقاته بالسودان، كجزء من سياسة ابتزازه للقاهرة وتسويقه لصورة بلاده كضحية لسياسات مصر على الصعيدين التنموي والأمني، وخصوصاً بين الدول في الاتحاد الأفريقي، وكذلك خلال الاتصالات المستمرة مع العواصم الغربية تحديداً حول ملف سد النهضة.
وقالت المصادر إن "مصر ليست قلقة بسبب تأخر التوصل لاتفاق بشأن السد طالما استمر مستوى الفيضان على وضعه الحالي"، لكنها "لن تعتد بأي تفاهم ثنائي بين إثيوبيا والسودان على أجندة الاجتماعات المقبلة". وكشف أن القاهرة "رصدت بالفعل تقارباً بين الطرفين الآخرين على التركيز على بعض النقاط بدون الأخرى، فضلاً عن إهمال للقضايا الأساسية التي تهم مصر"، وهو ما قد يلقي بظلاله على الاجتماعات المقبلة التي ستعقد تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، سواء فيما تبقى من فترة رئاسة جنوب أفريقيا، أو بعد انتقالها إلى الكونغو الديمقراطية.
القاهرة لن تعترف بأي تفاهم بين أديس أبابا والخرطوم
وأشارت المصادر إلى أنه في مواجهة تفاهم ثنائي محتمل بين السودان وإثيوبيا على تقديم قضية كمية المياه المحبوسة خلف السد في فترة الملء الثاني المتوقع إتمامها في الصيف المقبل، فإن الوفد الفني المصري سيركز على ضرورة الربط بين السدود وكمية التدفق السنوية ونوعية المياه والتصرفات التي ستجرى عليها، لا سيما أن الرؤية المصرية تختلف عن السودانية حول فترات الجفاف والجفاف الممتد حيث تقترح مصر تمرير 37 مليار متر مكعب كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليارا، وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث. لكن السودان يعتبر أن التمسك بالرقم الجديد المقترح من مصر لا يمكن توفيقه مع جهود إثيوبيا للملء الجاد. كما أنه يوجد خلاف حول خطة إثيوبيا للاستخدامات الخاصة بالمياه سواء كانت مخصصة لإنتاج الطاقة أو الزراعة أو غيرها.
وعلى الرغم من اعتراض السودان على تقديم إثيوبيا ورقة مجتزأة في اجتماعات أغسطس/آب الماضي عن رؤيتها للحل، فإنه لا يزال يوجد اتفاق فني بينهما على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر لتستمر القدرة على إنتاج الكهرباء. لكن مصر تطالب بإلغاء هذا الأمر نهائياً وتؤكد أنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وهذا ينعكس بالطبع على نقطة خلافية سبق ذكرها حول الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة وجميع السدود وعلى رأسها السد العالي.
ولفتت المصادر إلى أن مصر، لم تكن متحمسة منذ البداية لدور الاتحاد الأفريقي، الذي كان الخيار الأول دائماً لإثيوبيا، إذ كانت القاهرة قد تمسكت بضرورة استمرار مجلس الأمن في طريقه لدراسة القضية، وأبلغت جميع الأطراف بذلك، لكن إثيوبيا استغلت مظلة الاتحاد الأفريقي كفخ للمزايدة على مصر وإظهار أنها تتعمد التصعيد، في ظل خلافات القوى الكبرى حول القضية.
وابتداء من يونيو/حزيران الماضي؛ تسبب فشل خطوة اللجوء لمجلس الأمن والاكتفاء بالاتحاد الأفريقي غير المتعاطف مع مطالب مصر في حالة من التشاؤم بين المفاوضين واللجان الفنية بوزارة الري المصرية وكذلك بين المستشارين والخبراء الذين يعدون تقارير الموقف المصري في الإطار القانوني، والذين باتوا متأكدين من أن إثيوبيا ترغب بشتى السبل في التهرب من أمرين اثنين: أن يكون الاتفاق إلزامياً لها، وأن يتضمن الاتفاق بنداً يُنظم فض المنازعات باللجوء للتحكيم الدولي أو الإقليمي.
وسبق أن قال مصدر فني في وزارة الري والموارد المائية لـ"العربي الجديد" إنه "من الصعب بل يكاد يكون مستحيلاً التوصل إلى اتفاق متكامل قبل موعد الملء القادم لسد النهضة وبدء السد في توليد الطاقة الكهربائية كما تقرر الحكومة الإثيوبية في ربيع العام المقبل". وبحسب المصدر، فإن الخلافات بين الأطراف الثلاثة لا تزال كبيرة.