بعد أكثر من شهرين على الحملة العسكرية التي أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على إقليم تيغراي، شمال البلاد، وتعهده بـ"إعادة بسط سلطة الدولة" في هذا الإقليم، الذي كانت تسيطر عليه "جبهة تحرير تيغراي"، سياسياً وعسكرياً، تبدو موازين القوى بين الحكومة الفدرالية و"المتمردين"، في الشكل، تميل لصالح أديس أبابا، مع إعلانات مستمرة، منذ 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عن بدء العملية ثم انتهاء مراحلها تباعاً، وصولاً إلى السيطرة على العاصمة ميكيلي، وحتى "إعادة الإعمار". وبالتزامن، أطلقت الحكومة حملة بحث واعتقالات و"تطهير" واسعة بحق قياديي "الجبهة"، الذين باتوا متوارين في الجبال، وسط تضييق الخناق عليهم من قبل الدول الحدودية، ومنها السودان، وحتى دول تتهمها القوى في تيغراي بالمشاركة بالحرب عليها، كإريتريا، العدوة اللدود التاريخية للتيغراي. لكن ميزان القوى هذا عكس في الوقت نفسه حجم الصراع داخل إثيوبيا. وتحول عهد آبي أحمد من إصلاحي، ووفق رؤيته "ميدامير" (أي التآزر)، إلى صراع على البقاء، لا سيما أن ما يجري في تيغراي يسري أيضاً في عدد من أقاليم إثيوبيا الأخرى، حيث لا تزال الإثنيات متحاربة، وحيث مطالب "الحكم الذاتي" التي تأخذ أبعاداً دموية، تهدد هذا البلد بالمزيد من الحرب والتفكك والصراعات.
تبدو موازين القوى بين الحكومة الفدرالية و"المتمردين"، في الشكل، تميل لصالح أديس أبابا
ولا يأخذ الصراع في تيغراي بعداً إثنياً بقدر ما هو صراع على السلطة والاقتصاد. وكان تحرك آبي أحمد ضدّ قيادة الإقليم، في نوفمبر الماضي، قد سبقه منعها من إجراء انتخابات محلية، وذلك على أبواب انتخابات مقبلة، بعدما قرّر آبي أحمد إضعاف المتمردين عليه مسبقاً. وفي هذا الإطار، تصب ملاحقة وجوه وقيادات "جبهة تحرير تيغراي"، عبر عمليات التصفية الجسدية أو الاعتقال. في المقابل، وفيما يشتد الخناق "إنسانياً" على سكان الإقليم، يعمل آبي على إرهاقهم من الداخل، لنبذ "الجبهة" أو التخلي عنها. وكان ذلك قد سبقته محاولات كثيرة، قبل اندلاع الحملة العسكرية، ومنها أزمة الأراضي وتملّكها من قبل الدولة، حين حاولت معارضة داخل الإقليم مطالبة "جبهة تحرير تيغراي" بوقف استحواذ الحكومة على الأراضي، لتتهم "الجبهة" آبي أحمد بالتحريض عليها، وخلق شقاق بينها وبين الأهالي. ولا يزال قادة "الجبهة" المتوارون، الذين ما انفكوا يصعدون ضد أديس أبابا منذ تولي آبي الحكم عام 2018، يتوعدون باستمرار المقاومة ضد الحكومة الفدرالية، وهم يملكون ترسانة مهمة من الأسلحة والصواريخ، مستفيدين من صراعات في مناطق أخرى تهدد بمزيد من الفوضى، وذلك بعدما "خلق" آبي أحمد، الذي جاء إلى الحكم، أعداء كثراً له في تيغراي وأوروميا وأمهرة وغيرها، قد يكون من الصعب إخضاعهم.
وفي آخر حملة ملاحقة قادة "جبهة تحرير تيغراي"، أعلن الجيش الإثيوبي، يوم الأحد الماضي، قتل 15 من أفراد الحزب الحاكم السابق في الإقليم وأسر ثمانية. وقال مسؤول عسكري من قوة الدفاع الوطني الإثيوبية، بحسب ما نقل عنه التلفزيون الحكومي، إن من بين الأسرى رئيس الإقليم السابق أباي ويلدو، وهو أيضاً رئيس سابق للحزب الحاكم في الإقليم، مضيفاً أن من بين القتلى النائب السابق لقائد الشرطة في تيغراي. وكان أباي قد تولى رئاسة الإقليم في الفترة من 2010 إلى 2018، وحلّ مكانه الزعيم الحالي للجبهة، ديبرصيون جبريميكيل. وتولى أباي أيضاً زعامة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي من 2012 وحتى 2017، وخلفه ديبرصيون كذلك في هذا المنصب. وما زال مكان الأخير وأعضاء آخرين في اللجنة المركزية للجبهة، وكثيرين من كبار العسكريين مجهولاً. وجاء الإعلان الأخير، الأحد، بعدما قال الجيش، يوم الجمعة الماضي، إنه أسر أحد الأعضاء المؤسسين للجبهة، هو سيبهات نيجا، ونقله إلى أديس أبابا، وأسر 8 قياديين إضافيين، وقتل آخرين. ومن بين من جرت تصفيتهم المتحدث باسم الجبهة سيكوتوري غيتاشو، ودانيال آصيفا، الرئيس السابق للمكتب المالي للإقليم.
وبالتوازي مع حملة الملاحقة والمطاردة، عمد آبي أحمد إلى تطهير الجيش، لا سيما القيادة الشمالية، وهي الأكبر على مستوى البلاد، ممن يعتبرهم داعمين لـ"الجبهة" أو متواطئين معها. وعينّت أديس أبابا، في 11 نوفمبر الماضي، رئيساً تنفيذياً جديداً لمنطقة تيغراي، هو مولو نيغا، بعد رفع الحصانة عن ديبريصيون. وجاء ذلك مع إصدار مذكرات اعتقال بحق 75 ضابطاً في الجيش، بعضهم من المتقاعدين، في 19 نوفمبر الماضي، وذلك بتهمة "التآمر" مع "جبهة تحرير تيغراي"، وارتكاب "الخيانة"، بعد اعتقال 11 ضابطاً في بداية الحملة بالتهم ذاتها، ومنها إرسال "متفجرات" لمتمردي الإقليم. ورفضت الحكومة الحديث عن ملاحقة على خلفية إثنية، بل على خلفية "بناء شبكات إجرامية". كما أصدرت الحكومة في ذلك الوقت مذكرات اعتقال بحق 60 من قياديي "الجبهة". وفي منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلنت الحكومة الفدرالية عن منح جائزة قدرها 200 ألف يورو لكل من يدلي بمعلومات حول المتوارين. وفي نهاية نوفمبر الماضي، جرى تداول أنباء عن اعتقال السودان لقيادي عسكري كبير في "الجبهة".
وتنضم هذه الحملة إلى سياسة اعتمدها آبي منذ بداية عهده، عبر حملة "صامتة" ضد الإقليم. وكان قد بدأ ذلك في العام 2018، بإقصاء قادة الجبهة من مناصب كبيرة، واستهداف "الحرس القديم" في "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية"، وهو الائتلاف السابق المهيمن على الحياة السياسية في إثيوبيا، والذي تسيطر عليه "الجبهة". وجرى ذلك مع اعتقال أكثر من 60 ضابطاً ومسؤولاً، منهم من كان في أجهزة الاستخبارات، ورئيس إحدى الشركات العسكرية (كيفني داغنو) التي يديرها الجيش، ضمن الحملة الإصلاحية. وفي ذلك الوقت، اختلف محللون حول ما إذا كانت "الجبهة" قد أعطت دعمها لآبي، أو أن ذلك كان يجري من دون موافقتها الضمنية. لكن الجبهة ردّت بانسحابها من المشاركة السياسية في أديس أبابا، ورفض الانضمام إلى حزب آبي الجديد، "الازدهار"، والذي حاول من خلاله رئيس الوزراء فرض المركزية السياسية، من دون أن يتوانى حتى عن ممارسة القمع تجاه مجموعته الإثنية، الأوروميو.
ستعيد "جبهة تحرير تيغراي" على الأرجح، تجميع قواتها كحركة تمرد، وبالاعتماد على قوة إقليمية غير نظامية
وسط ذلك، رأى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومقره واشنطن، في تقرير له نشر في 4 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أنه مع سيطرة قوات الجيش المركزية على معظم إقليم تيغراي، فإن "جبهة تحرير تيغراي" على الأرجح، ستعيد تجميع قواتها كحركة تمرد، وأن بإمكانها الاعتماد على قوة إقليمية غير نظامية، يقودها جنرالات سابقون في الجيش، ومليشيا ضخمة، عمودها الفقري من قدامى المحاربين، لدعم المتمردين.
ورأى كبير محللي المركز، ويليام دافيدسون، أن قرار "الجبهة" عدم بذل جهود كبيرة للدفاع عن المدن الرئيسية، بما فيها العاصمة ميكيلي، يتشابه مع تكتيكات اعتمدتها قبل أربعة عقود. واستعاد المركز تقريراً سابقاً لوكالة "سي آي إيه" في العام 1984، رأى فيه أن "الجبهة" تتجنب المعارك الكبيرة لصالح عمليات منفردة، وهي تملك شبكة استخبارات واسعة وسط مجموعة سكانية متعاطفة معها، ما قد تستخدمه لأشهر مقبلة، وما قد يقود إلى مزيد من الموت والاستقطاب الإثني.
(العربي الجديد)