عاد الملف السوري بقوة إلى المشهد السياسي دولياً، بعد أن رُكن جانباً إثر وصول إدارة جو بايدن إلى السلطة في واشنطن بداية العام الحالي. وتشي هذه العودة بـ"صيف ساخن" للقضية السورية وربما بعض جغرافية البلاد لا سيما شمالها، إذ إن الفاعلين الدوليين في هذه القضية، قد يكونون أكثر استعداداً لتغيير المعادلات القائمة، سياسياً وجغرافياً، خصوصاً بعد تحدي النظام وحلفائه الروس المجتمع الدولي، بإجراء الانتخابات الرئاسية وفق الدستور الحالي للبلاد، وتمرير فوز بشار الأسد فيها.
وحضر الملف السوري بزخم في أروقة ومواقف عدة خلال الأسابيع الأربعة الماضية، فعلى الرغم من أن السوريين توقعوا خروج قمة الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين بصفقة جديدة حيال الملف السوري، فإن علامات واضحة لم تخرج عن تلك القمة حول صفقة نهائية، سوى حسم الموقف الأميركي على لسان بايدن بقوله إن "الأسد شخص غير موثوق به، ولا يمكن التعامل معه"، ما يعني كبح جماح الجهود الروسية الساعية لتعويم الأسد مجدداً بعد مساندته في إنجاز تمرير الانتخابات بفوزه، غير المعترف به دولياً.
وتسرّب عن القمة، وفق ما حصلت عليه "العربي الجديد" حينها، أن بوتين قدّم عروضاً عدة لبايدن على طاولة الاجتماع تشمل تنازلات في ملفات عسكرية واقتصادية مقابل تعويم النظام، أو على الأقل غضّ الطرف عنه وإيقاف إصدار العقوبات وإهمال العقوبات السابقة. لكن بايدن لم يقدّم أي تنازل في هذا الشأن، مكتفياً بتنازلات في ملفات إنسانية مقابل ملفات إنسانية أخرى، وتُرجم ذلك عقب يومين فقط على انتهاء القمة، بإعطاء الإذن لشركتين معاقبتين تعملان لصالح النظام، بالتحرك فوق العقوبات لمواجهة جائحة كورونا فقط، وهذا الإذن أعطي كبادرة من الإدارة الأميركية لاستمالة الروس لعدم استخدام حق النقض "الفيتو" في العاشر من الشهر الحالي في مجلس الأمن الدولي، عند التصويت على تمديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى سورية.
وسائل إعلام روسية سرّبت أن بوريسوف أبلغ الأسد بحصول تقارب روسي - أميركي حيال سورية
بعد قمة بايدن، زار نائب رئيس الحكومة الروسية يوري بوريسوف، دمشق حيث التقى الأسد، وعلى الرغم من أن وسائل إعلام النظام روّجت لتلك الزيارة على أنها تحمل دعماً روسياً للأسد بعد فوزه في الانتخابات وناقشت ملفات اقتصادية عدة، إلا أن وسائل إعلام روسية سرّبت أن بوريسوف أبلغ الأسد بحصول تقارب روسي - أميركي حيال سورية، ما يعني تهيئة الأسد للاستعداد لكافة الاحتمالات.
وقبيل انتهاء الشهر الماضي بيومين، كان الوضع السوري، ميدانياً، حاضراً على طاولة وزراء خارجية دول التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في روما. واجتماع روما أخذ أهمية من قيادة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لمجرياته، ووجود لمسات الولايات المتحدة في بنود بيانه الختامي المتعلقة بالشأن السوري، فعلاوة على التشديد على دعم آلية إدخال المساعدات الأممية، وتهيئة مناخ عمليات دعم الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كانت التصريحات الأميركية، قبل الاجتماع وخلاله وما بعده، تذهب إلى فكرة التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل في عموم البلاد؛ ويُقرأ من ذلك توجّه الولايات المتحدة لبدء التفكير ملياً بإنهاء الحرب الدائرة منذ عشرة أعوام، والذهاب تدريجياً نحو تثبيت الحل السياسي وفق الصيغ الأممية التي يحملها القرار الأممي 2254 بين طياته.
وسبق الاجتماع تصريح مهم للقائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، جوي هود، بالتلويح بعقوبات أمام الراغبين بالتطبيع مع النظام السوري، ما اعتُبر موقفاً متقدماً من إدارة بايدن حيال القضية السورية، في ظل تعاملها الخجول مقارنة بالحزم الذي كان حاضراً في عهد الإدارة السابقة. وجاء التلويح بمثابة تهديد للدول الراغبة بتطبيع علاقاتها مع النظام، على أساس فوز الأسد في الانتخابات، ليضع الخطوط الحمراء لـ"قانون قيصر" أمام هذه الخطوة، لا سيما في ظل معلومات عن حزمة جديدة من عقوبات القانون ستصدر في الأسابيع القليلة المقبلة.
وقبل أيام، كان الوضع الميداني في سورية، وتحديداً في الشمال الغربي منها، أي إدلب ومحيطها، على طاولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره التركي مولود جاووش أوغلو في أنطاليا التركية، ضمن مباحثات كانت أشبه بالمفاوضات. وشهدت تلك المباحثات قبل انطلاقها اتفاقاً غير معلن لوقف التصعيد والرد المتبادل بين النظام والمعارضة جنوب إدلب، بتفاهم روسي - تركي، ما يشير إلى إعادة النظر بالاتفاقات السابقة التي يكتنفها الغموض والخلاف بين أنقرة وموسكو في إدلب، لا سيما مع رمي لافروف، مصطلح "منطقة منزوعة السلاح" كان قد تضمّنها اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين الروس والأتراك في إدلب، والتي يهدف الروس من خلالها لوضع قدم على الطريق الدولي حلب - اللاذقية "أم 4" لفتحه أمام الحركة التجارية والطبيعية، لتخفيف الأعباء الاقتصادية على النظام.
التقى لافرنتييف الأسد في دمشق في توقيت يشي بالتفاهم على ما هو أبعد من جولة أستانة المقبلة
ويبدو أن هذه التطورات جميعها، حملت مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، للذهاب إلى دمشق ولقاء الأسد، ففي حين خرجت الأخبار عن أن لافرنتييف ناقش تفاصيل الجولة المقبلة (الـ16) من مسار أستانة التي ستعقد في الثامن من الشهر الحالي، بالإضافة إلى بحث عملية صياغة الدستور من خلال اللجنة الدستورية المتوقفة عن الانعقاد منذ نهاية الشهر الأول من العام الحالي، فإن توقيت الزيارة يشي بما هو أعمق من التفاهم على الشكليات بين الأسد ولافرنتييف، لا سيما أن أياماً قليلة باتت تفصل طرفي النزاع في سورية والفاعلين الإقليميين والدوليين، عن انعقاد جلسة مجلس الأمن للتصويت على آلية تمديد المساعدات. ولا شك في أن "البازار السياسي" قائم بين الفاعلين، لا سيما روسيا والنظام والإيرانيين من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وتركيا من جهة أخرى، وكل من الطرفين بات يعد الحسابات لمعرفة ما يجب تقديمه وما الذي سيحصل عليه في هذا "البازار"، وربما كان ذلك أكثر الملفات حضوراً على طاولة لافرنتييف والأسد في دمشق.
وفي حين لا يُتوقَع أن تجد الأطراف جميعها نقاط التقاء في زحمة هذه الملفات والمحطات المعقدة والمتشابكة، فإن الخلاف على طاولات التفاوض وفي الأروقة السياسية، الدولية والإقليمية، سيعني مزيداً من التصعيد للتفاوض بالنار على الأرض، وحتى إن كانت الجهود الدولية وجدت طريقاً للحد من التصعيد، فإن الصدامات ستكون حاضرة في الأروقة الدبلوماسية نظراً لتعنّت الأطراف وتشابك صيغ الحل وشبه استحالة التفاهم، وبالتالي فإن "الصيف الساخن" ربما يحمل منعطفاً أو منعطفات لفرض معادلات جديدة، قد تغيّر مسار التعامل مع الأزمة ومعطياتها بشكل شبه جذري.