"شراكة قرن" أميركية في الهادئ - الهندي تعزل فرنسا

17 سبتمبر 2021
وزيرة الخارجية الأسترالية ماريز باين مع نظيرها الفرنسي جان إيف لودريان قبل أشهر (Getty)
+ الخط -

فجرت الولايات المتحدة، أول من أمس الأربعاء، ومعها بريطانيا، مفاجأة بإعلانهما عن "شراكة قرن" أمنية وتكنولوجية مع أستراليا، لمواجهة التحديات والمتغيرات الاستراتيجية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، التي تحولت إلى ساحة توتر بين الغرب والصين، التي توسع نفوذها الاقتصادي (مبادرة الحزام والطريق) والعسكري في المنطقة. وأعلن عن الشراكة الاستراتيجية، والتي حملت اسم "أوكوس"، الأربعاء، بعد عملية تفاوض ومناقشات جرت بسرّية تامة، وفاجأ الإعلان، الذي أطاح صفقة أبرمتها فرنسا مع أستراليا في عام 2016، لتسليمها غواصات تقليدية من صنع مجموعة "نافال" العملاقة للصناعات الدفاعية، المتابعين والمسؤولين الفرنسيين. وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد عقد أول قمّة له، بعد توليه منصبه رسمياً في يناير/كانون الثاني الماضي، افتراضياً، مع قادة دول مجموعة التحالف الرباعي "كواد"، التي تضم مع الولايات المتحدة، الهند وأستراليا واليابان، والذين سيلتقيهم بايدن شخصياً في 24 سبتمبر/أيلول الحالي. لكن هذا التحالف، الذي تشارك فرنسا أحياناً في مناوراته، وحيث كانت اليابان تريد شدّ بريطانيا إليه، لا يشبه التحالف الجديد الذي أعلن عنه أخيراً، لا سيما من حيث منح الولايات المتحدة لأستراليا تكنولوجيا الغواصات النووية، غير الممنوحة من قبل سوى لبريطانيا، بالإضافة إلى الحديث الأميركي والأسترالي عن اتفاق ذي مدى عالمي وتداعيات هائلة، وسيترك أثره على أجيال مقبلة.

تبلغ قيمة العقد الذي فسخ مع باريس 56 مليار يورو

ولم تعرف الكثير من التفاصيل حتى الآن عن الاتفاق، الذي أغضب الصين بطبيعة الحال، سوى أن أستراليا ستحصل على غواصات ذات دفع نووي، بعدما كانت أميركا وبريطانيا فقط تتشاركان هذه التكنولوجيا النووية عبر اتفاق يعود للعام 1958. وبعدما كانت هذه الشراكة قد أغضبت الجنرال شارل ديغول، ليندد بشراكة نووية أنغلوساكسونية، تبدو ولادة الشراكة الجديدة، لنقل الاهتمام من منطقة الهادئ إلى منطقة الهادئ – الهندي، أقرب إلى شراكة أنغلوساكسونية جديدة، تمكنت عبرها واشنطن من شدّ الحليف البريطاني للمشاركة في بناء القدرات العسكرية في أعماق مياه المنطقة، وهي القدرات الضرورية الحاسمة لردع الصين. ويأتي استبعاد فرنسا من "اتفاق القرن"، عبر الإطاحة بصفقتها مع أستراليا، التي باتت تفوق الـ56 مليار يورو، بعد مرور 5 سنوات على إبرام العقد، بمثابة استبعاد "استراتيجي جيوسياسي"، تنظر إليه اليوم باريس، التي لم تعرف عن الاتفاق سوى بعد ظهر أول من أمس، بحسب مصادر صحيفة "لوموند"، بعين الريبة، وقد يقرّبها من بكين. ذلك أن النشاط الفرنسي في المنطقة، من مناورات وصفقات عسكرية، في تزايد، حيث باتت باريس ترى في الهندي - الهادئ، منطقة استراتيجية لتأكيد نفوذها. وليس الحديث الفرنسي عن "طعنة في الظهر" سوى من هذا الباب، علماً أن فرنسا، بحسب ما أشارت صحفها أمس، لن تخسر من العقد سوى بحدود 10 مليارات يورو، إذ سيجري التعويض الأسترالي لـ"نافال"، لفسخ العقد، وهو أيضاً ما سيكلّف دافع الضرائب الأسترالي الكثير. ويأتي تحييد فرنسا عن التحالف، وعن الصفقة، في وقت تسعى فيه أميركا إلى إعادة انتشار في المنطقة، ينضوي على تكامل بالتسلح بين الدول الحليفة لها، وتنسيق عال وتجانس في الأسلحة، التي ستكون الهيمنة فيها أميركية، فيما تبدو الرسالة الموجهة إلى فرنسا هي أن واشنطن لا تنظر إليها كدولة ذات ثقل استراتيجي.

وتتضمن الشراكة الأمنية واسعة النطاق مع أستراليا، تسليم كانبيرا غواصات ذات دفع نووي، وهو ما أعلنه رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، خلال مؤتمر عبر الفيديو استضافه بايدن في البيت الأبيض، وشارك فيه أيضاً رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي اعتبر أن اقتناء أستراليا غواصات تعمل بالدفع النووي "سيساعد في الحفاظ على السلام والأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، مشيراً إلى أن هذه الخطوة "لم يكن المقصود منها أن تكون معادية لأية قوة أخرى"، في إشارة إلى الصين. ولفت جونسون إلى أن المعاهدة "ستربط بين المملكة المتحدة وأستراليا والولايات المتحدة بشكل وثيق أكثر، ما يعكس مستوى الثقة بيننا وعمق صداقتنا"، مذّكراً بـ"تاريخنا المشترك كديمقراطيات بَحرية. من جهته، وجّه موريسون إثر الإعلان عن ولادة "أوكوس"، أمس الخميس، إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ، "دعوة مفتوحة" للحوار.

وبحسب الاتفاق، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا، ستدعمان خلال الأشهر الـ18 المقبلة، "رغبة أستراليا في الحصول على غواصات ذات دفع نووي"، حيث ستكون مدينة أديلايد مقر الفرق الاستراتيجية والتقنية من الدول الثلاث المكلفة بناء هذه الغواصات. وبحسب البيت الأبيض، فإن هذه الغواصات ستسمح لأستراليا بـ"الانتشار لمدة أطول"، وأن الغواصات "أكثر قدرة، وستسمح لنا باستدامة وتحسين قدراتنا الردعية في منطقة الهندي الهادئ". كما أكد القادة الثلاثة أن أستراليا "لا نية لديها للحصول على أسلحة نووية". وقال بايدن إن "أوكوس سيساعد بشكل أفضل على مواجهة تهديدات اليوم وغداً". ولم يذكر بايدن نوع الغواصات النووية التي تتضمنها الصفقة، فيما أشارت صحف غربية أنها قد تكون من طراز "فيرجينيا"، التي دخلت حوالي 20 نسخة منها في الخدمة. كما ستتنج بريطانيا غواصاتها الخاصة من طراز "أستيوت". ومن ضمن أهداف "أوكوس" أيضاً "تعزيز القدرات المشتركة، والقدرات العملياتية العسكرية العميقة، وإيجاد هندسات جديدة للقاءات والاجتماعات والانخراط بين مسؤولي الدفاع والسياسة الخارجية من البلدان الثلاثة"، بالإضافة إلى "الدفع بالتعاون في مجالات عدة، منها السايبر والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات كوانتوم (الكمومية)".

والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، هي أكثر استقلالية من غواصات الدفع التقليدي التي تعمل بالديزل والكهرباء، والتي كانت تنوي باريس تسليم 12 منها إلى أستراليا، في صفقة نافست بها ألمانيا في 2016، وفازت بها. وأشارت صحيفة "لوبوان" الفرنسية، أمس، إلى أن فرنسا كان بإمكانها تسليم غواصات نووية إلى كانبيرا، لو كان تمّ الاتفاق على ذلك. لكن فرنسا، بمطلق الأحوال، قد يكون من الصعب عليها نقل "المعرفة النووية" التي تملكها إلى أستراليا. وقال موريسون إنه كان تمّ إبلاغ باريس في يونيو/حزيران الماضي، بمشاكل متعلقة بالصفقة، وأوضح أمس أن "القرار الذي اتخذناه بعدم إكمال طريق حيازة غواصات من فئة أتّاك (الفرنسية)، ليس تغييراً في الرأي، بل في الاحتياجات". من جهته، وصف بايدن باريس بأنها "شريك أساسي"، كما أرادت بريطانيا، التي تقدم لها الصفقة دفعاً قوياً للخروج من عزلتها بعد "بريكست"، طمأنة باريس، إذ أكد وزير دفاعها بن والاس أنه "ليس لدينا نيّة فعل أي شيء يمكن أن يغضب الفرنسيين".

تتضمن الشراكة الأمنية واسعة النطاق مع أستراليا، تسليم كانبيرا غواصات ذات دفع نووي

لكن باريس كانت شديدة اللهجة في ردّ فعلها على نسف الصفقة. وانتقدت بلسان وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، تراجع كانبيرا عن "كلمتها"، فيما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي عمل جاهداً خلال عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لإبرام الصفقة، أن "هذا القرار الأحادي والمفاجئ وغير المتوقع يشبه كثيراً ما كان يفعله (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب". وأضاف: "أنا غاضب وأشعر بالمرارة. هذا أمر لا يحصل بين الحلفاء".

وفي الواقع، فقد ألحقت الشراكة الأمنية الجديدة انتكاسة كبيرة باستراتيجية باريس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، المبنية على شراكات مع الهند وأستراليا، ويهدد نسف الصفقة، صفقات أخرى موقعة أو تعمل الصناعات الدفاعية الفرنسية على الاستحواذ عليها في المنطقة، لا سيما مع الهند واليابان. وأسف لودريان لأن "إزاحتنا من قبل الولايات المتحدة جاء في وقت نواجه فيها جميعا تحديات غير مسبوقة في منطقة الهادئ ــ الهندي، أكانت لقيمنا أو للتعددية المبنية على حكم القانون، ما يعني تغييب التكامل، وهو ما لا تستطيع فرنسا سوى أن تستنجه وأن تبدي أسفها لحصوله". وقال مسؤول كبير في وزارة الدفاع الفرنسية، لمجلة "لوباريسيان"، إن السبب الحقيقي لفسخ العقد هو "التسلل ثم الضغط الأميركي، وإجبار كانبيرا" على خطوتها هذه. وقال مسؤول آخر: "نحن ضحية قرار استراتيجي لدولة ذات سيادة. لكنه قرار جيوسياسي وليس بأي حال من الأحوال، تقنيا".

من جهتها، ندّدت الصين أمس، بصفقة "غير مسؤولة إطلاقاً". وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، إن "التعاون في مجال الغواصات النووية يزعزع بشكل خطير السلام والاستقرار الإقليميين، ويكثّف سباق التسلح ويقوّض الجهود الدولية نحو عدم انتشار الأسلحة النووية".
(العربي الجديد)

تقارير دولية
التحديثات الحية
المساهمون