يسود الهدوء الحذر الشمال السوري بعد أيام من المواجهات بين "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) وفصائل سورية معارضة، أسفرت عن تمدد "الهيئة" إلى شمال غربي حلب، والسيطرة على منطقة عفرين الاستراتيجية، ما يعني الاقتراب من تخوم مدينة أعزاز معقل قوى الثورة البارز.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الجانب التركي تدخل أخيراً، أول من أمس الإثنين لإيقاف تمدد "هيئة تحرير الشام" من خلال "هيئة ثائرون"، وهي تشكيل عسكري معارض، وقد تدخلت كـ"قوات فصل" بين "الهيئة" و"الفيلق الثالث" التابع للجيش الوطني المعارض، وهما الطرفان المتصارعان منذ أكثر من أسبوع.
وكانت "هيئة تحرير الشام"، سيطرت الإثنين الماضي على بلدتي كفر جنة وقطمة في ريف عفرين الشرقي اللتين لا تبعدان سوى خمسة كيلومترات عن مدينة أعزاز، فيما تضاربت المعلومات أمس حول انسحاب "الهيئة" من هذه المناطق.
فقد ذكرت مصادر مقربة من الجيش الوطني لـ"العربي الجديد"، أن "هيئة تحرير الشام" امتثلت للطلب التركي بالانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها يوم الإثنين، وبدأت بسحب قواتها وتسليم مواقعها لقوات مشتركة من "هيئة ثائرون" والجيش التركي، للحيلولة دون تجدد الاشتباكات.
وأشارت المصادر إلى أن "ثائرون" فضلت البقاء على الحياد أثناء الاشتباكات بين "الهيئة" و"الفيلق الثالث". ولفتت إلى أن الجيش التركي أدخل مدرعات وآليات عسكرية ثقيلة صباح أمس الثلاثاء إلى قريتي مشيعلة وقطمة قرب بلدة كفر جنة، ما يشير إلى رفض أنقرة وصول "هيئة تحرير الشام" إلى عمق ريف حلب الشمالي.
وبيّنت المصادر أن "هيئة تحرير الشام سلمت أمس الثلاثاء كل المواقع التي سيطرت عليها أول من أمس الإثنين لهيئة ثائرون، وعادت إلى مواقعها السابقة".
غير أن مسؤول العلاقات لدى فصائل "الفيلق الثالث"، هشام اسكيف، نفى في حديث مع "العربي الجديد" أمس، "انسحاب هيئة تحرير الشام من المناطق التي استولت عليها في بلدة كفر جنة ومناطق أخرى في مدينة عفرين وباقي المناطق الأخرى في منطقة غصن الزيتون شمالي محافظة حلب". وأكد اسكيف أن "هناك بعض التعهدات بانسحاب الهيئة من المنطقة، لكنها لم تطبق حتى اللحظة".
ذكر اسكيف أن "هيئة ثائرون باتت قوة فصل بالفعل كي لا تستمر الاشتباكات بين تحرير الشام والفيلق الثالث"، مشيراً إلى أن "المناطق التي سيطرت عليها هيئة تحرير الشام في منطقة عفرين ربما تصبح هدفاً للطيران الروسي".
وتضم "هيئة ثائرون" المنضوية في الجيش الوطني والتي كانت تأسست أواخر العام الفائت، فصائل عدة هي: فرقة السلطان مراد، فيلق الشام - قطاع الشمال، ثوّار الشام، فرقة المنتصر بالله، الفرقة الأولى بمكوناتها (لواء الشمال والفرقة التاسعة واللواء 112).
"هيئة ثائرون" فضلت البقاء على الحياد أثناء الاشتباكات
تركيا تراقب التطورات بالشمال السوري
من جانبه، قال مصدر دبلوماسي تركي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "تركيا ما زالت تراقب التطورات عن قرب من جهة، وتحاور الفصائل من جهة ثانية في محاولة لاستيعاب الأحداث، والتهدئة، وفي الوقت نفسه، ما زالت تعمل على حل دائم في المنطقة من أجل ضمان الاستقرار بعد النزاعات الأخيرة".
وأوضح المصدر أنه "خلال الأيام المقبلة، ستتضح أكثر خريطة التفاهم، إذ إن تركيا تراقب حالياً مآلات الصراع على مدينة أعزاز، والمباحثات التي تجري بين الأطراف المتنازعة، ليتبيّن الشكل النهائي للاتفاقات التي من المؤكد أنها ستؤدي لترتيبات جديدة تزيل أسباب الفوضى وعدم الاستقرار"، مؤكداً أن "الأوضاع لن تعود لما كانت عليه قبل النزاع الأخير".
المناطق التي سيطرت عليها هيئة تحرير الشام في منطقة عفرين ربما تصبح هدفاً للطيران الروسي
"هيئة تحرير الشام" القوة الضاربة في عفرين
وخسرت فصائل المعارضة السورية خلال الأيام القليلة الفائتة منطقة عفرين شمال غربي حلب، والتي باتت تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" وفصائل متحالفة معها أبرزها فصيلا "فرقة الحمزة"، و"فرقة سليمان شاه"، وهو ما يعدّ ضربة كبيرة لفصائل الجيش الوطني، والتي كما يبدو باتت تخشى على ما بقي تحت سيطرتها من مناطق.
وذكرت مصادر محلية في عفرين لـ"العربي الجديد"، أن "الهيئة باتت القوة الضاربة في المنطقة"، مشيرةً إلى أن "الهيئة نشرت حواجز لها في هذه المنطقة" التي يشكل الأكراد غالبية سكانها، والذين لطالما عانوا من تجاوزات بحقهم من قبل الفصائل التي سيطرت على المدينة مطلع عام 2018.
مشروع "هيئة تحرير الشام" يصب في مصلحة النظام
ويبدو أن الرفض الشعبي لأي تقدم لـ"هيئة تحرير الشام" شمال حلب، دفع الجانب التركي للتدخل بشكل غير مباشر عن طريق "هيئة ثائرون"، كي لا تنزلق المنطقة إلى احتراب داخلي واسع النطاق، خاصة أن موازين القوى لصالح "الهيئة".
وذكرت مصادر محلية في مدينة الباب لـ"العربي الجديد"، أن "هيئة تحرير الشام تستغل الانقسامات الهائلة بين فصائل المعارضة السورية لتنفيذ مشروعها القديم الجديد، والقائم على بسط نفوذها بشكل كامل على الشمال السوري".
وبيّنت أن هذا المشروع "يصب في النهاية لصالح النظام، إذ تفقد المعارضة بذلك كل أوراقها السياسية، وهو ما يسهّل على الروس فرض رؤيتهم للحل باعتبار أن الشمال بات تحت سيطرة منظمة إرهابية".
مصدر دبلوماسي تركي: تركيا ما زالت تعمل على حل دائم في المنطقة
تعويل على الحراك الشعبي ضد "هيئة تحرير الشام"
وأعربت المصادر عن اعتقادها بأنّ "الحراك الشعبي هو المعوّل عليه في إفشال ما يُخطط له من عدة جهات"، مضيفةً أنه "في حال تقدم الهيئة في الشمال، تصبح سورية ثلاث دويلات تسيطر عليها قوى إرهابية متطرفة، وهي النظام، وهيئة تحرير الشام، والوحدات الكردية".
وفي السياق، اعتبر المحلل السياسي ياسين جمول، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الحراك الثوري قادر على إفشال خطط الهيئة"، مطالباً فصائل المعارضة السورية "بعدم التوقيع على أي اتفاقية تمسّ خط الثورة وثوابتها من دون موافقة الحاضنة الشعبية".
وأعرب جمول عن اعتقاده، بأن "الحراك الثوري تجاوز السياسيين والعسكريين وحتى الشرعيين في مواجهة مشروع تمدد هيئة تحرير الشام".
ورأى أن "الرهان التركي على قيادة الائتلاف السوري أو الحكومة المؤقتة وعلى قيادات الفصائل وحدهم، رهان خاطئ، فالمحرّك الأساسي هو الحراك الثوري الحرّ من الحاضنة الشعبية؛ والخسارة ستكون للثورة ولتركيا إن انقلبت الحاضنة وغيّرت موقفها".
في غضون ذلك، طالبت السفارة الأميركية في دمشق عبر معرفاتها الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي "هيئة تحرير الشام، صاحبة النفوذ العسكري في إدلب، بسحب قواتها من المنطقة (شمالي حلب) على الفور"، مذكرةً بأن الهيئة المذكورة "منظمة إرهابية".
وأشارت إلى أن "الولايات المتحدة الأميركية تشعر بقلق عميق إزاء أعمال العنف أخيراً في شمال غربي سورية". وطالبت جميع الأطراف بـ"حماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم".
قتل 58 شخصاً، بينهم عشرة مدنيين، خلال الاقتتال الأخير في الشمال السوري
خسائر بشرية وتعميق معاناة المدنيين في الشمال السوري
وقتل 58 شخصاً، بينهم عشرة مدنيين، خلال الاقتتال الأخير في الشمال السوري، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. إذ قتل 28 عنصراً من "هيئة تحرير الشام" و20 مقاتلاً من الفصائل المتحاربة، فضلاً عن عشرة مدنيين، بحسب المرصد.
وتسببت الاشتباكات في الشمال السوري بين "هيئة تحرير الشام" و"الفيلق الثالث" بتعميق مأساة المدنيين، إذ ذكر فريق "منسقو الاستجابة" والذي يرصد الأحوال الإنسانية، في تقرير أمس الثلاثاء، أنه "سجل استهداف خمسة مخيمات منتشرة في ريف حلب من جهات مختلفة الإثنين الماضي"، مشيراً إلى أن 875 عائلة تقطن هذه المخيمات.
وأوضح أن عدد المخيمات المستهدفة منذ بداية الأحداث في المنطقة وصل إلى 12 مخيماً. كما سجل الفريق محاصرة أكثر من 1000 عائلة داخل المخيمات مع انقطاع الطرق المؤدية إليها نتيجة الاشتباكات، مشيراً إلى أن أكثر من 560 عائلة (3156 نسمة) نزحت من المخيمات التي شهد محيطها الاشتباكات. وأوضح أن عدد النازحين منذ بداية الأحداث وصل إلى 7284 نسمة.
وقال الفريق إن النازحين توجهوا إلى مناطق متفرقة من ريف حلب الشمالي (4177 نسمة) وريف إدلب الشمالي (3107 نسمات)، مشيراً إلى أنهم "بحاجة إلى تأمين مأوى ومواد غذائية ومياه صالحة للشرب". وأشار الفريق إلى مقتل وإصابة نحو 55 مدنياً من بينهم نساء وأطفال نتيجة الاشتباكات.
وكانت المواجهات بين "هيئة تحرير الشام" و"الفيلق الثالث" الذي تشكل "الجبهة الشامية" عماده الرئيسي، قد بدأت منتصف الأسبوع الماضي، بعد دخول "الهيئة" على خط مواجهات اندلعت بين عدد من الفصائل ولا سيما "الجبهة الشامية"، و"فرقة الحمزة"، المقربة من الهيئة، بعد ثبوت تورط هذه الفرقة باغتيال ناشط إعلامي في مدينة الباب شمال شرقي مدينة حلب.