نظم "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" فرع تونس، أيام الخميس والجمعة والسبت، ندوة علمية دولية عن بعد بعنوان "الشّعبويّة: إحراجات نظريّة، سياقات الانتشار وتجارب مقارنة"، حيث قدم باحثون من الجزائر والمغرب وتونس والسودان والعراق وبولندا مداخلات حول تجارب مختلفة من الخطابات الشعبوية وكيفية تمظهرها، وتأثيرها على السياسات وعلى الأنظمة الديمقراطية.
وأكد رئيس "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، فرع تونس، مهدي مبروك، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ الندوة "تناولت قضية الشعبوية في سياقات محددة تميزت بتنامي الظاهرة، حيث أصبحت لها تعبيرات مختلفة في العالم العربي"، مؤكداً أنّ "المصطلح غامض، فهل الشعبوية أسلوب حكم، أم إيديولوجيا أم عقيدة..؟".
وأوضح أنه "وفي كل الحالات يبدو أنها ترتبط بالأنظمة الديمقراطية، وأنها في حالات أخرى تأتي كمحاولة لإصلاح الديمقراطية كما تدعي، والحال أنّ الديمقراطية إذا اعتلّت لا تعالج بالشعبوية لأنها تشوش عليها وتثقلها".
وبيّن مبروك أنّ "هناك تجارب متعددة للشعبوية، فشعبوية أميركا اللاتينية ليست شعبوية أوروبا الشرقية، وشعبوية ترامب ليست شعبوية أردوغان"، مؤكداً أنّ "شعبوية السبعينات ليست ذاتها في التسعينات، وكل الشعبويات تتوهم أنها تتحدث باسم الشعب، ولكن كان هناك دائما ترذيل للأجسام الوسيطة واعتبارها عائقاً بين الزعيم والشعب، كما أنه ينجم عن ذلك تأليه الشعب وازدراء النخب".
وأضاف أنّ "القضية التي تفرزها الشعبوية هي التقسيم بين هم ونحن، بين الأخيار والأشرار، وكل الشعبويات تضيق بالديمقراطية التمثيلية، وتعتقد أنّ الشعب لا يحتاج لمن يمثله، فالاعتقاد الراسخ أنّ الشعبوي هو الزعيم الملهم وهو قائد الأمة والضمير الحي"، لافتاً إلى أنّ "هناك نزوعاً في بعض الشعبويات العربية إلى أن تصبح تسلطية وتنحى منحى خطيراً وتصبح شكلاً من أشكال التسلط".
وأكد رئيس "المركز العربي" فرع تونس أنّ هناك "من يذهب إلى أنّ الزعيم الحبيب بورقيبة مثلاً وبشكل ما كان شعبوياً"، مبيناً أنه "بعد الثورة برزت تعبيرات شعبوية، فعديد الأحزاب حملت كلمة الشعب، وحالياً يمكن القول إنّ رئيسة الحزب الحر الدستوري عبير موسي والرئيس قيس سعيّد لهما أكثر تعبيرات واضحة عن شعبويات الانتقال الديمقراطي في تونس".
الشعبوية "تحرج" الديمقراطية
وقدّم الباحث التونسي، أيمن البوغانمي مداخلة بعنوان "الشعبوية الإجرائية: حين تستقبل المسؤولية السياسية إرادة الشعب"، ذهب فيها إلى أنّ "الشعبوية تحرج الديمقراطية وتفقدها الوسائل التي تعتمدها"، مؤكداً أنّ الأنظمة الأقدر على المقاومة عندما تكون هناك رقابة الشعب والبرلمان، والهدف من الضغط الإجرائي كسر هذه الشعبوية".
وأكد البوغانمي، في تصريح لـ"العربي الجديد" أنّ "الشعبوية هي ضغط على الديمقراطية ومحاولة بأن تكون أكثر ديمقراطية أي دمقرطة الديمقراطية"، مبيّناً أنّ "الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية تم تقييدها بالشروط الدستورية، وبرقابة الهيئات الدستورية، والتي يرفضها الشعبويون".
وأشار إلى أنّ "الشعبوية تؤدي إلى شخصنة السلطة، ما يؤدي إلى نتائج عكسية، كأن يأتي زعيم يعتبر نفسه الملهم الوحيد للشعب فتنتهي المداولات الديمقراطية لصالح الفرد"، مضيفاً أنّ "الشعبوية تنزع للسلبية وإيجابياتها بسيطة، وهي أنها تعيد نوعاً من الحماسة المؤقتة للحياة السياسية ولكنها سريعاً ما تنقلب على نفسها، لأنّ الأطراف الأكثر حماسة وقدرة على التأثير هم الأطراف الأكثر تطرفاً".
وأوضح أنه "في التجربة التونسية، كانت الطريق مفتوحة للشعبوية منذ 2011، ووقع استخدام عدة شعارات عامة لمغازلة عواطف الشعب نظراً لضعف الأعراف الديمقراطية"، مبيناً أنه "وقع تفسير الديمقراطية على أنها إرادة الشعب، وتم تجاهل الأبعاد الأخرى، رغم أنّ النخب حاولت أن تضع بعض الحواجز، وتجنب الانحرافات".
ولفت الباحث إلى أنّ "الشعبوية رافقت تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وتم في إطار تجربة التوافق تجنب انحرافاتها، وكبح جماحها، ولكن في 2019 انقلبت تجربة التوافق إلى حالة سلبية، رغم أنها جنّبت تونس الأسوأ"، مؤكداً أنّ 2019 "تعدّ فترة انتصار الشعبوية بامتياز بدخول الرئيس الحالي قيس سعيد للرئاسة، ودخول عدة أطراف متطرفة تميز خطابها بالشعبوية إلى البرلمان".
"خطاب شعبوي لافت" لقيس سعيّد
من جانبه، أكد الباحث التونسي، محمد الحمروني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الشعبوية في تونس بدت كظاهرة بارزة المعالم مع الرئيس قيس سعيد، فقد كان خطابه شعبوياً بشكل لافت وعلني"، مؤكداً أنّ "الشعبوية تبرز عبر المشاريع التي طرحها سعيدّ من خلال العودة إلى القاعدة، والتركيز على الشعب، والقضاء على الوسائط بينه وبين الشعب كالبرلمان والمجتمع المدني".
وأضاف الحمروني أنّ "السلوك الشعبوي برز عبر مختلف المراحل السياسية التي عرفتها تونس، ومن خلال بعض المواقف الشعبوية البورقيبية (الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة)، وحتى في مواقف الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وخطابات الأحزاب السياسية بعد 2011".
الشعبوية استراتيجية سياسية
بدوره، يرى الباحث من المغرب محمد النعيمي، والذي قدم مداخلة حول "شعبويات أميركا اللاتينية التشافيزية أنموذجاً"، أنّ مفهوم الشعبوية "يسوده الكثير من اللبس"، مبيناً أنّ السؤال هل أنّ "الشعبوية معنى أم حركة؟".
وأكد النعيمي أنّ من خصائص الشعبوية أنها "استراتيجية سياسية وتتميز بخطاب شعبي ضد المؤسسات وتتمتع بقدرة على التحشيد ولا تقتصر على الطبقات الاجتماعية الهشة، وتعتمد على وسائل الاتصال وعلى التكنولوجيا وبالتالي هي برنامج عملي".
وأضاف "ففي الحالة التشافيزية هي حركة سياسية وإيديولوجية قادت إلى الحكم في فنزويلا، حيث لم تكن تحظى إلا بالقليل من الاهتمام ثم أصبحت فنزويلا بلداً يستقطب العالم، وطرحت الشعبوية كحركة لمسائل غير مألوفة".
احتجاجات العراق "شعبوية"
أما الباحث دهام محمد دهام من العراق، والذي قدم مداخلة بعنوان: "الشعبوية وصراع الأضداد في التجربة العراقية"، فيرى أنّ الاحتجاجات في العراق "كانت شعبوية، حيث عملت على تغيير النظام السياسي، فأغلب الجماهير في العراق فقدت الثقة في النخب واتهمتها بالعجز، وهذا المطلب بحصول تغيير ثوري في العراق أظهر بشكل هام رغبة كبيرة في التغيير، وطالب المحتجون بمحاسبة السياسيين وخاصة ممن جاؤوا بعد 2003".
الاحتجاجات في العراق "كانت شعبوية، حيث عملت على تغيير النظام السياسي"
وبيّن أنّ "المحتجين وأغلبهم من الشباب المتحمس تولوا حرق مقرات أحزاب ومنع سياسيين من الترشح"، موضحاً أنّ "أسباب تفشي الشعبوبة في العراق متنوعة، فنجد الفقر والبطالة والتردي الاقتصادي وتنامي الإرهاب، وكل هذه الأسباب موجودة في المشهد العراقي، ما أدى إلى تفشي خطاب شعبوي، وخاصة في صفوف الشباب".
وأكد الباحث العراقي أنّ "السلطة بقيت ترفع شعارات لا تدفع للتغيير بتعلة أن مقاومة الإرهاب تعيق التنشيط الاقتصادي، ولكن بعد خروج داعش من العراق برزت احتياجات من رحم المناطق الشعبية واشتعلت المظاهرات في بغداد وفي عدة مناطق مع تطور سياسي مهم في ظل ولادة جيل جديد من المحتجين برز بعد 2003".
طبيعة الخطاب السياسي لبنكيران في المغرب
كما تحدث الباحث محمد إدعلي من المغرب، والذي قدم مداخلة حول: "نحن، هم، خصائص واستراتيجيات الخطاب السياسي الشعبوي لرئيس الحكومة المغربي الأسبق، عبد الإله بنكيران"، عن طبيعة الخطاب السياسي لبنكيران، وكيف وظف الخطاب السياسي لتوجيه الجماهير، والاستراتيجيات الخطابية التي استعملها".
وبيّن إدعلي أنّ "الخطاب السياسي لبنكيران تميز بجرعة خطابية حماسية محاولا توظيف عدة استراتيجيات وحتى بنية حكائية، فضلا عن المظلومية والتوصيف للأزمة، فالمجتمع يشكو أزمة فساد وقد حاول بنكيران تقديم الحل وإخراج الشعب من أزمته"، مضيفاً أنّ "الحل بحسبه هو التصويت لحزب العدالة والتنمية للخروج من الشر، وكأنها هدية من السماء وحاول المفاضلة بينه وبين النخب ومواجهة الخصوم، ووصف من أضربوا مثلاً بالضجيج وعمل على تضخيم أمراض المجتمع، فقد كان يستأثر بالمقاربة الاحتكارية في تمثيل الشعب مسلطاً الضوء على قيم أخلاقية وعلى حتمية الإصلاح".
ثنائية" الأنا والآخر ونحن وهُم
وفي السياق أيضاً، أكدت المختصة في علم الاجتماع، فتحي السعيدي، التي قدمت اليوم السبت مداخلة حول: "ثنائية" الأنا والآخر ونحن وهُم، في الخطاب السياسي الراهن، نزاع الهويات ومظاهر الشعبوية"، أنّ "ثنائية نحن وهم خلقت مجالاً مخصوصاً لغيرية قائمة على التنازع حول إدارة الشأن العام والوصول إلى السلطة في مرحلة أولى، ثم على التنازع حول كيفية إدارة الشأن العام، وصلاحيات السلطة بين فضاءات السلطة ذاتها، (أي البرلمان، رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية)، وقد تمازجت ثنائية نحن وهم، حينا، وعرفت المناكفة حينا آخر، وفي الآن ذاته ميّزت وفرّقت بين الشخوص السياسية التي استعملت نفس المفردات ونفس الكلمات ونفس تقنيات التواصل في أغلب الأحيان".
وبينت السعيدي أنّ "الأنا والـ نحن، أدوات قد تشكّلت في اللّغة وباللغة، أو في الخطاب السياسي المسوّق له خلال الحملة الانتخابية لسنة 2019 وبعدها، وهي أدوات عدد من المترشحين والفاعلين السياسيين الذين من خلال خطابهم السياسي أو من خلال مساراتهم الذاتية قد أصبحوا موضوعاً للتماهي ونسجوا حولهم هويات متنافرة ومتنازعة حول المشترك أو حول تمثلات إدارة الشأن العام، فاعتمدوا على مفردات لغوية اتجهت إلى شيطنة الخصم ووصمه، وخلقوا مجالاً مخصوصاً للفعل الاجتماعي يستند إلى خطاب شعبوي انفعالي قائم على التمايز بين الـ"نحن و"هم"، أو بين "الشعب الحقيقي المتسم بالطهورية وبين النخب السياسية الحاكمة أو تلك التي تمّ وصمها "بالفساد".
وأوضحت أنها "عبارة عن هويات مبعثرة في فضاء عمومي متنازع حوله، شهد بروزَ تيار شعبوي تشّكّل حول قيس سعيد المرشح للرئاسة ثم قيس سعيد الرئيس".