أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، المدعوم إماراتياً، منتصف الأسبوع الحالي، "تأييده المطلق" للاحتجاجات الشعبية التي شهدتها محافظة حضرموت، شرقي البلاد، أخيراً، تنديداً بالأوضاع المعيشية المتدهورة وانهيار الريال اليمني، محذّراً من عواقب وخيمة في حال التصادم مع الجماهير. لكن عندما هبّت رياح الانتفاضة الشعبية إلى معقله في عدن، استخدم "الانتقالي الجنوبي" القوة المفرطة من رصاص حيّ ومداهمات لمنازل ناشطين، قبل أن يتوّج إجراءاته القمعية بإعلان "حال الطوارئ"، اعتباراً من مساء أول من أمس الأربعاء. أمر انعكس سريعاً على الأوضاع على الأرض، إذ أكدت مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، أمس الخميس، أنّ هدوءاً نسبياً ساد شوارع المدينة غداة إعلان حالة الطوارئ، حيث شوهدت دوريات مكثفة للقوات المدعومة إماراتياً في الشوارع كافة، وتحديداً في مديرية كريتر، التي شهدت مواجهات دامية الأربعاء. أما في حضرموت، فقد وجهت السلطات المحلية بتطبيق حظر تجول جزئي اعتباراً من مساء أمس الخميس، وذلك غداة مقتل متظاهر في الاحتجاجات الشعبية. وذكر مصدر محلي لـ"العربي الجديد"، أنّ القرار الذي اتخذته سلطات حضرموت حدد حظر التجول من السادسة مساء وحتى السادسة صباحاً، خلافاً للقرار الصادر عن المجلس الانتقالي الجنوبي الذي لم يحدد أي فترات زمنية لسريان الحظر في عدن.
أعلن الزبيدي حال الطوارئ وتعبئة قتالية بعد 3 أيام من الاحتجاجات
ومنذ الرحيل القسري لرئيس الحكومة اليمنية معين عبد الملك من عدن، جرّاء اقتحام عناصر انفصالية قصر معاشيق الرئاسي منتصف مارس/آذار الماضي، وجد المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه في مأزق حقيقي، حيث يظلّ المتهم الأول أمام الشارع الجنوبي بعدن، فيما آلت إليه الأوضاع من انهيار غير مسبوق للخدمات العامة والعملة الوطنية. إلا أن المجلس، الذي يشارك في حكومة المحاصصة بخمس حقائب وزارية، بقي كعادته، يحمّل الحكومة مسؤولية تردي الأوضاع، ويلوّح بشكل متكرر باتخاذ إجراءات أحادية. ومع تجاهل الحكومة لوعيده، وجد "الانتقالي" نفسه في مرمى العاصفة الشعبية، وهدفاً لاحتجاجات عفوية وغير منظّمة تطالبه بالرحيل، وتحديداً إلى محافظة الضالع التي يتحدر منها غالبية قادته.
وعقب ثلاثة أيام من تظاهرات محدودة، لم يشارك فيها سوى مئات مواطنين فقط، سقط "الانتقالي الجنوبي" في أول اختبار حقيقي بمواجهة الشارع المحتقن، حيث شعر المكون الطامح إلى حكم جنوب اليمن وإعادة الانفصال كما كان الوضع ما قبل عام 1990، بأن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة بشكل أكبر. ولذلك في اليوم الثالث من عمر احتجاجات عدن، ظهر الزعيم الانفصالي عيدروس الزُبيدي أول من أمس الأربعاء، في خطابين متناقضين، استخدم في الأول شعاراته الثورية التي اعتاد على تسويقها للشارع الجنوبي، وفي الثاني تقمّص شخصية رئيس جمهورية، وأعلن "الطوارئ" وتعبئة قتالية. فبعد ساعات من مغازلة المتظاهرين، معتبراً أن ما يحصل في الشارع الجنوبي، دليل على "حيوية الشعب ومقاومته لكل أساليب التجويع التي يمارسها تجّار الحروب والإرهاب"، ظهر الزُبيدي مرة ثانية في خطاب متلفز لإلقاء بيان حرب، أشار فيه إلى أن تلك الحيوية "جزء من مؤامرة لقوى الإرهاب تستهدف الجنوب، ولا تقل خطورة عن مليشيات الحوثي"، داعياً قوات الأمن إلى "الضرب بيدٍ من حديد على كل من تسول له نفسه زعزعة الأمن والاستقرار وإثارة البلبلة والقلاقل".
حرف الأنظار
بدا المجلس الانتقالي الجنوبي فاقداً للحيلة، وهو يشاهد زخم الاحتجاجات يتصاعد. وبعد نحو ساعة فقط من سقوط أول قتيلين بنيران قواته في مدينة كريتر، بدأت وسائل إعلام انفصالية تبّشر بخطاب وصفته بـ"الهام" لرئيس المجلس، الزبيدي. وبالنسبة لفصيل سجّل حضوره في المشهد العام بقوة السلاح، كان من المتوقع أن زعيم الانفصاليين لن يزّف لسُكّان عدن بشرى معالجة خدمة التيار الكهربائي أو انهيار العملة، بل سيمضي نحو مزيد من الإجراءات القمعية وإعلان الطوارئ، التي تجعله قادراً على حرمان المحتجين من توقيتهم المفضّل للخروج إلى الشوارع، خلافاً لساعات النهار التي تحاصرهم فيها حرارة الجو.
وعلى الرغم من النوايا الحقيقية والهدف الماثل للعيان، إلا أن رئيس المجلس الانتقالي، حاول سرد مبررات مختلفة لإعلان الطوارئ، وعلى رأسها "الغزو الحوثي الجديد على الجنوب"، في إشارة إلى المكاسب التي حقّقتها جماعة الحوثيين في مديرية الصومعة بالبيضاء، وفي تخوم محافظة شبوة، فضلاً "عمّا يواجهه الشعب الجنوبي وعدن من تآمر لا يقل خطورة عن العدوان الحوثي". ومن خلال عناوين كبيرة سعى من خلالها إلى كسب التعاطف الشعبي الذي بدأ يفقده خلال الفترة الأخيرة، دعا الزُبيدي إلى "رفع حالة الاستنفار دفاعاً عن الأرض والعرض والدين والهوية، والاستعداد لرفد الجبهات القتالية بالرجال والمال والعتاد، للتصدي لهذه المليشيات الغازية ومواجهتها بكل قوة وبسالة، وتسجيل مآثر بطولية جديدة، تؤكدون فيها أن الجنوب عصيٌ على الانكسار".
لا يستبعد مصدر في الحكومة اليمنية قيام المجلس الانتقالي بمحاولة التمدد نحو أبين وشبوة بذريعة التصدي للحوثيين
ولا يبدو المجلس الانتقالي الجنوبي جادّاً في عرض كهذا، خصوصاً أن توحيد المعركة ضد الحوثيين كان الهدف الرئيسي لاتفاق الرياض وإشراك المجلس في حكومة المحاصصة، حيث ظلّت أهداف "الانتقالي الجنوبي" تنحصر في التمدد نحو حقول النفط والغاز في شبوة وحضرموت. ومع استحالة انخراطه في المعارك المحتملة التي تندلع في حال هاجم الحوثيون شبوة، كونها خاضعة بالكامل للقوات الحكومية، أكد مراقبون، ومنهم الباحث اليمني عبد الناصر المودع، أن "لا هدف من وراء تسويق تلك الشعارات من قبل الانتقالي الجنوبي، سوى إلهاء الرأي العام الجنوبي عن هدف المجلس الرئيسي المتمثل بقمع الاحتجاجات". وأوضح المودع في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المجلس الانتقالي جهة متمردة غير شرعية، ما يعني أنه لا يمتلك الشرعية لإعلان حال الطوارئ"، لافتاً إلى أن المجلس بهذا الإعلان "يريد قمع حركات الاحتجاجات الموجهة ضدّه، وحرف الأنظار نحو الادعاء بأنه يقوم بعمل ما للحصول على الدعم الشعبي الذي يفتقده".
في الأثناء، اعتبر مصدر في الحكومة اليمنية، أن إعلان حال الطوارئ من قبل رئيس المجلس الانتقالي، يفتح الباب أمام احتمالات عديدة، ومسارات ينوي المجلس البدء في اتخاذها، على رأسها "الهروب من واقع عدن وتصدير المشاكل نحو المحافظات الأخرى"، مستغلاً غياب الحكومة وفشل السلطات المحلية في حضرموت أو عدن، مهد الاحتجاجات الجديدة. وأشار المصدر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الاحتمال الثاني، وهو الأقرب، يتمثل في اتخاذ التطورات الأخيرة كغطاء لقمع الاحتجاجات الشعبية، أما السيناريو الثالث، فيكمن في "التمدد نحو أبين وشبوة"، بذريعة التصدي للغزو الحوثي.
كيف تحرك الشارع الجنوبي؟
استنفدت الحكومة اليمنية والانفصاليون كافة الأسلحة في معركة كسر العظم الدائرة بينهما منذ مطلع العام الحالي، وبعد انسداد آفاق التفاهمات السلمية لتنفيذ ما تبقى من اتفاق الرياض الهشّ بما يؤدي للسماح بعودة رئيس الوزراء إلى عدن، باتت شوارع المدن الجنوبية مسرحاً جديداً لخلط الأوراق، تحت مبررات عدة، أبرزها تدهور الأوضاع المعيشية والانهيار القياسي للعملة، بعد أن بلغ الريال اليمني في تداولات اليومين الماضيين غير الرسمية أكثر من 1112 أمام الدولار الواحد.
ذات السيناريو كان قد تكرر قبيل ولادة الحكومة التي تمخضت عن اتفاق الرياض، أواخر العام الماضي، عندما تم استخدام ما بات يطلق عليها بـ"حرب الخدمات" في الصراع السياسي بين الحكومة و"الانتقالي"، كما تم استخدام ذات الأسلحة الحالية، والمتمثلة بانقطاع التيار الكهربائي وانهيار العملة الذي ينعكس بشكل مباشر على الأوضاع المعيشية.
استغلت بعض المكونات الجنوبية الأحداث الأخيرة للنيل من المجلس الانتقالي
وكما نجحت وسائل الضغط السابقة في إعادة تعافي الريال من 900 أمام الدولار الواحد إلى 650 بعد تشكيل حكومة المحاصصة وعودتها إلى عدن، بات من الواضح أن الأزمة المفتعلة الحالية، وخصوصاً الانهيار غير المنطقي للعملة المحلية، تدار من قبل طرف يهدف إلى إثارة نقمة شعبية ضد طرف آخر. وعلى الرغم من أن الضرر يشمل كافة القاطنين في المدن الخاضعة للحكومة الشرعية، إلا أنه كان من اللافت أن الغضب الشعبي لا يزال محصوراً في مدينتي عدن والمكلا، فضلاً عن تظاهرة يتيمة شهدتها محافظة أرخبيل سقطرى.
وأكدت مصادر محلية في عدن، لـ"العربي الجديد"، أن التظاهرات التي شهدتها عدن كانت عفوية بشكل تام، حيث ضاقت الأوضاع المعيشية بالمواطنين بعد بلوغ فترات انقطاع التيار الكهربائي أكثر من 14 ساعة في اليوم، فضلاً عن الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الغذائية. وأشارت المصادر، إلى أنه إذا كان هناك من فصيل سياسي أو مكون يقف وراء تحريك الشارع، فهو المجلس الانتقالي الذي اعتبر الحراك الشعبي في البداية بأنه سيصب في مصلحته ويضيّق الخناق على الحكومة الرافضة بالعودة إلى عدن. وأشارت إلى أن غياب أيّ لافتات خلال التظاهرات واقتصار الاحتجاجات على قطع الشوارع بإطارات مشتعلة، والهتافات ضد التحالف والشرعية والانتقالي، دلائل تؤكد أن ما يحصل حراك شعبي خالص. وتوقع مصدر إعلامي في عدن، طلب عدم الكشف عن هويته، في حديث لـ"العربي الجديد"، عدم استمرار التظاهرات بعد إعلان حال الطوارئ نظراً للقمع الحاصل منذ مساء الأربعاء، والمداهمات التي طاولت منازل العشرات في مديرية كريتر.
إلى ذلك، استغلت بعض المكونات الجنوبية الأحداث الأخيرة للنيل من المجلس الانتقالي، حيث اعتبر "الحراك الثوري"، الذي يتزعمه الزعيم الانفصالي حسن باعوم، ما يحدث بأنه "نتيجة حتمية لسلسلة طويلة من الفشل الإداري في أهم المحافظات المركزية"، لافتاً إلى أن "الاحتقان الشعبي الذي يجوب شوارع عدن وحضرموت، يصعب الآن تجاوزه أو التشويش عليه أو شيطنته، كما جرت العادة". ودعا "الحراك الثوري"، في بيان صحافي، الأطراف الحاكمة للجنوب، إلى "قراءة المشهد بعقلانية واحتواء هذه الأحداث ضمن الممكن، بعيداً عن لغة القمع والعنف وتضييق مساحات الحرية أكثر فأكثر"، محذراً من أن المعالجات القمعية "ستؤدي إلى مزيد من الغضب والنتائج الكارثية التي لا تعود بالفائدة على أحد". وفيما أعلن "الحراك الثوري" وقوفه الدائم مع الشارع الجنوبي ومطالبه التي وصفها بأنها "حقوق مستحقة"، أشار البيان إلى أنه "لا تملك أي جهة كانت، الحق في اعتبار التظاهر، وطلب المُساءلة، ورفض فشل أي مؤسسة كانت، عملاً إجرامياً يواجه بقوة الرصاص".