في تكريم فهمي جدعان

30 أكتوبر 2018
+ الخط -
أول القول إنها مقدّرةٌ وموضعُ تثمينٍ خاص مبادرة كرسي معهد العالم العربي في باريس تكريم المفكر والفيلسوف العربي، الأستاذ الزائر في معهد الدوحة للدراسات العليا، فهمي جدعان (1940)، في حفلٍ، استضافه يوم الخميس الماضي (25/10/2018) مجمع اللغة العربية الأردني في رحاب مقرّه في عمّان، بمشاركة جمعٍ طيّبٍ من العلماء وأهل الأكاديميا العرب. واستطرادا، فإن هذا الاحتفاء بأستاذنا مناسبةٌ متجدّدةٌ للتنويه بأهمية مطارحاته الفكرية، وحفرياته في الماضي والراهن العربيين، وأفكارِه بشأن مستقبلٍ عربيٍّ مغاير، وهذه كلها لا يعرفها فقط طلابُه في عدة جامعات درسوا عليه، وإنما أيضا قرّاء كتبه التي يتابع إصدارها بهمّةٍ ومثابرةٍ كبيرتين، وتتوالى طبعاتها. وقد أصاب رئيس مجمع اللغة العربية الأردني، خالد الكركي، في كلمته بالغة الأناقة، في حفل التكريم، في قولِه إن فهمي جدعان قدّم نموذجا متميزا للمثقف العربي الذي يحمل على كتفيه من الهموم ما لا طاقة إلا للجذريين من المثقفين به. وكذا في إشارته إلى خمسين عاما، وجدعان "يأخذنا من علم أزقّة القرى إلى رحاب الفلسفة". وللحق،  ثمّة كثيرٌ مما يستحقّ التأشير إليه، في ما يخصّ منجز أستاذنا المحتَفى به، وإضاءاته المعرفية والفكرية، في كلمات مدير معهد العالم العربي في باريس، معجب الزهراني، والأكاديمية التونسية ناجية بوعجيلة، وعضو مجمع اللغة العربية الأردني، إبراهيم بدران، وعميد كلية الآداب في جامعة اليرموك، زياد الزعبي، ومدير الحفل الشاعر زهير أبو شايب، وكلها كلماتٌ اعتنت أساسا بالقيمة الرفيعة لمجهود فهمي جدعان في مؤلفاته وبحوثه، سيما منها التي ألحّت على العقلانية والمشتركات بين خطابات النهضة العربية المشتهاة.

وإذ يعلم صاحب هذه الكلمات من المفكّر جدعان نفسِه إنه يعكف حاليا على كتابة سيرةٍ ذاتيةٍ وفكرية، قد تكتمل بعد شهور، فإنه يحدسُ بأنها ستكون ذات فائدةٍ مضاعفة، سيّما وأن كاتبها سيطلّ على قديمه ومحطّات حياته، وعلى أفكارٍ وقناعاتٍ تبنّاها ودافع عنها، بقدرٍ من المراجعة والتأمل المتجدّد فيها، الأمر الذي باتت أنفاسٌ منه تحضر في جديد جدعان من محاضراتٍ ومؤلفات، يلمس قارئها أنها متخفّفة، على نحوٍ ظاهر، من الثقل الأكاديمي والمنحى الذي يبحث معرفيا الظواهر والأسئلة والقضايا، فيما مقادير جرعات التأمل أوضح، وأقربُ إلى ما يمكن اعتبارها سياحةً للعقل في المطروح من همومٍ ضاغطةٍ، وأسئلةٍ راهنةٍ، وتحدّياتٍ حادّةٍ، لا تتوخّى حسم إجاباتٍ واجتهاداتٍ، بقدر ما تروم التأكيد على بديهيّاتٍ منسيةٍ، وضروراتٍ متروكةٍ، تنهض أساسا على إعلاء قيمة العقل، ونبذ الاستبداد، وتعزيز ممارسة الحرية. وهذا ظاهرٌ في أحدث مؤلفات أستاذنا "مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016)، والذي يستشعر قارئُه متعةً مضافةً فيه، في أناقة لغته وصفائها. ولا يخفى عن قرّاء جدعان أنه كثير الاعتناء بدقّة مفرداته، وكثير الاكتراث بإحالاتها وإحاطاتها، وهو الذي يرى، في القسم الثاني من هذا الكتاب، أن اللغة العربية تقع اليوم على تخوم الخطر، وأن الثقافة العربية مهدّدةٌ في هويّتها وخصوصيتها.
كتب الصديق مهند مبيضين في "العربي الجديد"، مرّة، إن فهمي جدعان شغوفٌ في ملامسة المناطق المظلمة في التاريخ العربي والإسلامي. وهذا صحيحٌ، ما تبدّى خصوصا في كتابه السجالي والشجاع "المحنة.. بحث في جدلية الديني والسياسي"، والذي صدرت طبعته الأولى في 1989، وطبعته الثالثة أخيرا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في 2014. كما يمكن الوقوف على هذا الأمر في غير كتابٍ انصرف إلى أسئلة العلاقة مع التراث، وإلى تحرير التفكير العربي، وتأصيل العقلانية، ومنها كتابه "تحرير الإسلام ورسائل زمن التحوّلات"، و"رياح العصر"، وغيرها. ولا يُغفل هنا عن نحو عشرة كتبٍ له بالفرنسية. ولا يجد واحدُنا، في معرض تثمين تسليم معهد العالم العربي في باريس فيلسوفَنا شهادةً فخريةً وميدالية الكرسي، في احتفالية عمّان الأسبوع الماضي، غير التشديد على قراءة فهمي جدعان، وبعيونٍ محبّةٍ.. وناقدةٍ معا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.