40 عاماً لا تكفي لتحرير فلسطين

29 يناير 2023

(نبيل عناني)

+ الخط -

هذا السؤال طرحه أربعينيّ الأسر ماهر يونس، على نحو غير مباشر، عندما خرج من سجون الاحتلال، قبل أيام، وترك الجواب معلقاً في أعناقنا نحن "الطلقاء".

عموماً، وحدَهم الأسرى الفلسطينيون لا يشعرون بأي نوع من البهجة وهم يغادرون السجون؛ لأنّ السجن بالنسبة لهم حرية، و"الخارج" هو السجن. ونحن لم نفهم ذلك، لأنّنا لم ندرك بعد أنّ من الصعب على الإنسان أن يكون حرّاً في وطن غير حرّ.

وعلى من يشكّك في هذه النظرية أن يعود إلى ما قاله الأسير ماهر يونس، الذي أمضى 40 عاماً في سجون الاحتلال، إذ كانت أول عبارة لثغ بها عند الخروج: "كان أملي بعد أربعين عاماً أن أجد الوطن محرّراً". والحال أنّ هذه العبارة وحدها تختصر التراجيديا الفلسطينية التي تغاير سائر التراجيديات العالمية، سيما عندما تتحوّل إلى سؤال على شفاه أسير يشبه طفلاً ينطق أولى عباراته، خصوصاً أنّه مُنع من الكلام أربعين عاماً، ثم جاءت الخيبة التي حملها سؤال لاطم صافع جارح: "لماذا لم تتحرّر فلسطين بعد؟" وهي عبارة يمكن أن تتحوّل إلى سؤال استنكاريّ على غرار: "لماذا أخرجتموني قبل تحرير فلسطين؟".

هل كان سؤالاً "وجوديّاً" ذلك الذي طرحه عميد الأسرى الفلسطينيين، أم مجرّد تعبير عن امتعاض ما، خصوصاً أنّه كان على يقين تامّ عندما حكم بالسجن المؤبد، أنّ "وجود" إسرائيل التي تحاكمه، لن يستمرّ أربعين عاماً؟ ربما، غير أنّي على قناعة أنّ يونس كان يستذكر عبارة محمود درويش في رثاء راشد حسين: "ليتني كنتُ طليقاً في سجون الناصرة" عندما أطلق عبارته "الوجودية" تلك، فقد شعر لحظة الخروج أنّه خسر حريته؛ وأنّه أصبح بعيداً عن "خطّ النار" مع المحتلّ. لم يكن يريد لحصّته من النضال أن تنتهي، لأن الخصم لم يُلق سلاحه بعد، والمعركة لم تزل مستعرة الأوار، وخروجه من السجن في حمّى الوطيس يعني "الإخلاء"... يعني أنه ربما قتل أو جرح، أو لم يعد صالحاً لمواصلة المعركة مع الرفاق.

والعبارة ذاتها، بالنسبة إليه، تنطوي على إحساسٍ بأنّه خُدع عندما أخرج من السجن قبل تحرير فلسطين، فثمّة من زيّن له العكس عندما اقتاده من الزنزانة، وأقنعه أنّ 40 عاماً تكفي لتحرير فلسطين، وما عليه سوى الخروج وقبض الثمن، لكنّه وقع في الشرك الذي أعدّ له جيداً؛ لأنّ الخصوم كانوا يريدون له أن يرى بأمّ عينيه بطلان أمانيه، وأنّ الاحتلال لا يزال جاثماً.

وما أكثر الخصوم ضدّ ماهر يونس الذي دخل السجن بعدوٍّ واحد، وخرج بعشرات الأعداء، وربما لهذا السبب تأجل تحرير فلسطين 40 عاماً أخرى. ولهذا السبب أيضاً، كان يتعيّن إخضاع ماهر يونس لإعادة تأهيل في سجون موازية غداة إطلاقه من السجن الأول، وأعني بها سجون السلطة الفلسطينية التي لا يمكن لغيرها أن تُعدّه لتقبّل "الأمر الواقع" الجديد، الذي يعني أنّ إسرائيل لم تعد عدوّاً بل حليف في مقام "السيّد" حتى بات يتوجب عليه تقديم اعتذار تاريخي عمّا اقترفه بحقها من جرائم سابقة. لكنّ المعضلة أن ماهر يونس حمل إدانته بشفتيه عندما تمتم بعبارته تلك، وهو يخرُج من السجن؛ لأن هذه العبارة بالنسبة لجلاوزة السلطة تعني أنه لم يتُبْ بعد، بل لا يزال يشكل تهديدًا للمرحلة الجديدة التي تتطلّب الانحناء، وعثرة في طريق "التنسيق" والتطبيع، ونفياً للنظرية "الوجودية" الصهيونية التي تؤمن بها السلطة الفلسطينية حدّ اليقين.

لا أدري إذا كان ماهر يونس قد وجد إجابة عن سؤاله "الوجوديّ" بشأن تحرير فلسطين، لكنّ كلّ ما أعرفه أنّ هناك من يعبث بخطوط النهاية كلما اقتربنا من تحريرها، وثمّة من يضيف إلى الأمد المقترح للتحرير عشرات "الأربعينيات" وإلّا لكانت أربعينية ماهر يونس وحدها تكفي، فعلاً، لتحرير فلسطين.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.