سميح ودرويش.. أيّهما رثى الآخر أولاً؟

25 اغسطس 2014
+ الخط -


بعد صراع مع المرض، توفي الشاعر الفلسطيني الكبير، سميح القاسم، حاملاً معه إرثاً زاخراً من القصائد التي تحكي قصة الكنعاني الصامد في الجليل. سميح المولود في قرية الرامة في 1939، غيّبه المرض العضال عن أحداث السنوات الثلاث الأخيرة في عالمه العربي، وعن المصاب الجلل الذي يعصف هذه الأيام بفلسطين المحتلة، غير أن المخزون الشعري والثقافي للرجل كفيل بخلود الاسم وذاكرته المخطوطة في الدواوين، بمنأىً عن النسيان، وبقابلية عالية للإسقاط على كل جديد طارئ. ولعلّ فريقاً واسعاً من متذوقي الشعر العربي الحديث يرى أن الراحلَين الكبيرين، سميح القاسم ومحمود درويش، اشتركا في أمور عديدة، فقد أجمع شاعرا الأرض والإنسان على أن الموت ليس مصدراً للرعب والخوف، وآمنا بهذه الفكرة ودافعا عنها، بل تعدّى الأمر ذلك بأن أكدا شعرياً على أن الرحيل طريق للخلود في الذاكرة. فأبدى درويش، بدوره، ميلاً جارفاً نحو الموت، في أسطر جداريةٍ تعدّ الأكبر في التاريخ، تحدّث فيها عن خلجات الروح، وعن التناقضات في علاقة كل راحل كبير مع الموت بصورة عامة، من دون إغفال وجود تخصيصات ترتبط بدرويش التجربة والإنسان.

وجاء في نص الجدارية ما يؤكد قناعة درويش بحتمية الموت ومزايا الخلود فيه، عندما قال:

وكأنني قد متُّ قبل الآن..

أَعرفُ هذه الرؤيا، وأَعرفُ أَنني

أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ. رُبَّما

ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ

ما أُريدُ..

سأصيرُ يوماً ما أُريدُ.

ليردّ عليه سميح القاسم بكلمات تقضي على أية مخاوف حيال الموت:

أنا لا أحبك يا موت، لكنّني لا أخافك

وأدرك أن سريرك جسمي، وروحي لحافك

وأدرك أنّي تضيق عليّ ضفافك

أنا لا أحبك يا موت

لكنّني لا أخافك.

وفي الوقت عينه، أشار القاسم إلى اللامحبة التي تساوره حيال الموت، في ظل جدلية "الموت والخوف منه"، وأثبت شعرياً ألا وجود لحاسة الخوف المذكورة.

وفي تأكيد آخر على صحة مشاعر اللاخوف عند القاسم تجاه حادثة الموت، باتت قصيدة الرثاء التي خطها عقب رحيل درويش، بعنوان "خذني معك" شاهداً على ذلك، وقدمت في كلماتها تبيانا كافياً عن حق الخلود بعد الموت، مكافأة على غياب الرعب المرتبط بتوقف الحياة، فيقول سميح:

وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ

وأعدائِنا الطارئينْ

ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ

يُحبّونَنا مَيِّتينْ

ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي.

وهي، أي تلك العبارات، تشير إلى المحبين والروّاد الذين سيُخلّدون كلمات الشاعرَين بقراءتها ونشرها بُعيد الوفاة.

في المقابل، نلمح في مطلع نص الرثاء القاسمي إلحاحا منه على درويش، ليصطحبه إلى الخلود الأبدي، عندما يناجيه بحزن قائلاً:

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني

ووزرِ حياتي

وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،

أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟

وهي أشبه ما تكون بطريقة عزف القيثارة على وتر يناجي أنطوني كوين، لكن، كل منهما هنا عربي فلسطيني خالص.

بيد أن الخلود الذي تحدث عنه درويش، في جداريته الأصيلة، يضعنا في حيرةٍ من أمرنا أمام سؤال من نوع جديد: "أي الكبيرين رثى الآخر أولاً؟ درويش أم سميح؟"، وفي هذه الجدلية، تناقض مع ظرف الزمان، على اعتبار أن محمود درويش رحل بفارق زمني عن سميح القاسم مقداره ست سنواتٍ وعشرة أيامٍ.

ولو عدنا إلى تحليل مقدار العطاء لدى الشاعرين، لوجدنا اتفاقاً معلناً عنه لكل طرف بأنه ليس ملكاً لنفسه وحسب. وفي هذا نص سميح في قصيدة الرثاء ذاتها، عندما يخاطب درويش بمصطلح: "أرتال أخوتنا الطارئين"، ويصارحه بالقول: "لكنهم يحبوننا يا صديقي"، في دلالة على أن سميح القاسم كان مؤمناً بأن الشاعر ليس ملكاً لذاته على الإطلاق.

أما عن السبق في ذلك العطاء والإيثار بتمليك شخص الفرد المبدع للكل، فقد كان بصورة غير معلنة لمحمود درويش في خواتم الجدارية، عندما أهدى محبيه عطاءً مترافقاً مع الساعات الأخيرة في حياته قائلا:

أَما أَنا - وقد امتلأتُ

بكُلِّ أَسباب الرحيل

فلستُ لي

أَنا لَستُ لي

أَنا لَستُ لي..

وكأن محمود قدم رثاءه بسميح قبيل وفاتهما، متنبئا بلحظات غياب الصف الثقافي الفلسطيني الأول، المتمثل بهما في تلك الفترة، وصولاً إلى آخر نبضةٍ صدرت من قلب أي منهما، قبيل الموت بلحظات.

فجدارية درويش تحوّلت بوفاة سميح القاسم إلى رثاء وذاكرة لكل راحل كبير، فهي خاصة، عامة، تنبؤية ورثائية، ولم يكن أن يكتب لها الكمال، لولا شيء من سميح القاسم دخل إليها بإذن غير معلن للجمهور، أخفاه درويش طيلة تسع وسبعين دقيقة، ألقى فيها جداريته، وواصل درويش إخفاء التصريح، عقب رحيله، لتكشف الجدارية نفسها عن وجود سميح القاسم بين سطورها، وتبكي رحيله، بعد فاصل زمني، لا يتجاوز الدقائق.

avata
avata
أشرف السهلي (فلسطين)
أشرف السهلي (فلسطين)