11 نوفمبر 2024
ما يعنيه إعلان حفتر تفويض نفسه تولّي السلطة في ليبيا
أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في بيان متلفز بثته قنوات مقرّبة منه، في 27 أبريل/ نيسان 2020، إيقاف العمل بالاتفاق السياسي الليبي، و"الاستجابة للإرادة الشعبية" بتولّي "المؤسسة العسكرية" السلطة. ويأتي قرار حفتر بعد أيام قليلة من طلبه "تفويضًا شعبيًّا" لإدارة شؤون البلاد وفق إعلان دستوري تصدره المؤسسة العسكرية. ويتزامن هذا التطوّر الجديد مع انقلاب في المشهد العسكري لصالح حكومة الوفاق الوطني، بعد مرور عامٍ على إطلاق حفتر هجومًا على العاصمة طرابلس.
انقلاب المشهد الميداني
أطلقت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، في 26 آذار/ مارس 2020، عمليةً عسكرية لصد هجوم قوات حفتر على غرب ليبيا، تحت مسمّى "عاصفة السلام"؛ بهدف حماية العاصمة طرابلس ومحيطها من القصف الصاروخي والمدفعي الذي تتعرّض له، والذي ألحق أضرارًا بالغة بأحيائها السكنية ومنشآتها الخدمية وبُناها التحتية. وتتزامن هذه العملية العسكرية مع الذكرى السنوية الأولى لإطلاق حفتر هجومه على العاصمة في 4 أبريل/ نيسان 2019، وبعد أشهر من المبادرات الدولية التي انطلقت مع لقاء موسكو الذي جرى بتنسيق روسي - تركي خلال كانون الثاني/ يناير الماضي.
ومنذ انطلاق الهجوم على العاصمة، في 4 نيسان/ أبريل 2019، وجدت قوات حكومة الوفاق نفسها مجبرةً على اتخاذ وضعية الدفاع؛ لافتقارها إلى التنسيق والتسليح الجيد، وإلى غطاء جوّي فاعل. واقتصرت مبادراتها الهجومية على العملية العسكرية التي أدّت إلى استرجاع مدينة غريان، في أواخر حزيران/ يونيو من العام الماضي. ولئن نجح هذا التكتيك العسكري في منع قوات حفتر من المزيد من التقدّم، فإن تكلفته البشرية والمادية كانت عالية؛ إذ ظلت العاصمة في مرمى القصف، المدفعي والصاروخي والجوّي، وتفاقمت أزمة النزوح من الأحياء المحاذية لمحاور القتال أو الواقعة ضمنها.
ومنذ إطلاق عملية "عاصفة السلام"، شهدت المنطقتان، الغربية والوسطى، نشاطًا مكثفًا لسلاح الجو التابع لحكومة الوفاق الوطني، حيث شملت غاراته تجمعات قوات حفتر؛ مِن سرت شرقًا إلى الحدود التونسية غربًا. ومقابل ذلك، تراجعت طلعات الطيران (الحربي والمسيّر)، الداعمة لحفتر، بعد أن ظلّت الفاعل العسكري الأبرز على امتداد عامٍ كامل، وخلال فترة طويلة نسبيًّا من احتكار الأجواء. وتركّزت ضربات طيران "الوفاق" على محاور قتالية رئيسة، حتى الآن، هي: منطقة الوشكة، وأبو قرين بين مصراتة وسرت، وقاعدة الوطية جنوب غرب العاصمة، ومدينة ترهونة التي تُعد غرفة العمليات الرئيسة لقوات حفتر في المنطقة الغربية، ومدن الشريط الساحلي الغربي.
أدّى الاستخدام المكثف للطيران المسيّر من قوات حكومة الوفاق الوطني إلى إحداث انقلابٍ في المشهد العسكري بالمنطقتين؛ الغربية والوسطى، ففي الأخيرة، ألحقت الغارات الجوية أضرارًا بشرية ومادية فادحة بقوات حفتر في محورَي الوشكة وأبو قرين، ومنعتها من التقدم في اتجاه الحدود الإدارية لمصراتة. أما في المنطقة الساحلية الغربية وما جاورها، فقد حققت قوات الوفاق اختراقًا ميدانيًّا كبيرًا باستعادة السيطرة على كامل الشريط الساحلي الواقع بين العاصمة طرابلس والحدود التونسية، واسترجاع مدن عدة، هي: صرمان وصبراتة والجميل ورقدالين وزلطن والعسة والطويلة، في عملية عسكرية خاطفة تمَّ خلالها الحصول على كميات كبيرة من الغنائم المتمثلة بالأسلحة والعتاد والآليات، إضافةً إلى تفكيك المجموعات المدخلية المسلحة، ولجوء مجموعات أخرى إلى قاعدة الوطية. وفي الآن نفسه، أدّت الغارات المتتالية التي شنَّها الطيران المسيّر إلى تحييد قاعدة الوطية الاستراتيجية وإخراجها من الخدمة، بعد أن كانت منطلقًا للغارات الجوية على طرابلس والمنطقة الغربية، ومعسكرًا خلفيًّا لمرتزقة شركة فاغنر الروسية.
وما إن تمَّ بسطُ السيطرة على الشريط الساحلي الغربي وتحييد قاعدة الوطية، حتى توجهت قوات الوفاق إلى مدينة ترهونة التي تُعد غرفة العمليات الرئيسة في المنطقة الغربية، وتمكّنت من التوغل في حدودها الإدارية، بالتوازي مع شنِّ ضربات جوية استهدفت معسكرات قوة "الكانيات" التابعة لحفتر داخلها. وعلى الرغم من أن قوات "الوفاق" حققت تقدمًا ميدانيًّا مهمًّا خلال اليوم الأول من تحرّكها نحو ترهونة، فإنها اكتفت بتأمين ما حققته من مكاسب وفرضت حصارًا حول المدينة، ويبدو أن طبيعة المعركة هناك لا تسمح بتكرار سيناريو العملية الخاطفة التي شهدها الشريط الساحلي الغربي؛ فمدينة ترهونة تقع ضمن مجال جغرافي تحكمه التضاريس المرتفعة، ويخترقه طريقان فقط، يؤديان إلى وسط المدينة، إضافةً إلى النسيج الاجتماعي المعقد في المنطقة الذي يمتد إلى التخوم الجنوبية للعاصمة. من جهة أخرى، لا توجد خيارات كثيرة أمام قوة "الكانيات"؛ وهي النواة الصلبة لقوات حفتر في المدينة، ما يدعوها إلى الاستماتة في الدفاع عن مواقعها الأخيرة، مستغلةً صعوبة لجوء قوات الوفاق إلى سلاح الطيران، بكثافة؛ نظرًا إلى اكتظاظ المدينة بالسكان.
في الحصيلة، نجحت قوات الوفاق، خلال شهر من إطلاق عملية "عاصفة السلام" في تأمين الشريط الساحلي الغربي، وإخراج قاعدة الوطية من الخدمة، وفرض حصار على مدينة ترهونة، وتضييق الخناق على قوافل الإمدادات القادمة من المنطقة الشرقية، عبر قاعدة الجفرة. وفي هذه الأثناء، يظل تأمين العاصمة من القصف الذي يمتدّ إليها يوميًّا مرتهنًا بتطور الوضع الميداني في ترهونة، ففي حال تواصُل قطعِ خطوط الإمداد، وتمكُّن قوات الوفاق من استعادة ترهونة، فإنّ مثل هذا التطور سيكون مُؤذنًا بانتهاء المعركة في التخوم الجنوبية للعاصمة.
إعلان حفتر التفويض
في هذا السياق، يمكن قراءة إعلان حفتر "قبول التفويض الشعبي باستلام السلطة"، وارتباطه بانقلاب الوضع الميداني خلال الشهر الأخير، وما أفرزه من انكفاءٍ لقواته في أكثر من محور. فقد ضيقت هذه التطورات خياراته، بعد أن رفض، في أكثر من مناسبة، أي مبادرات سياسية (إقليمية ودولية)، من شأنها منحه موقع الشريك في المشهد السياسي الليبي. كما أنه، بعد التقدّم السريع الذي حققته قوات الوفاق، وجد نفسه في موقع العاجز عن حماية حواضنه في المنطقة الغربية من البلاد. من ناحية أخرى، تمثل التكلفة البشرية العالية التي تكبدتها قبائل المنطقة الشرقية ومدنها من جرَّاء الهجوم على طرابلس، من دون تحقيق الحسم السريع والسهل الذي وعدها به حفتر عند إطلاق العملية العسكرية منذ عامٍ، عاملًا ضاغطًا إضافيًّا يدفع إلى تصدُّع الدعم الاجتماعي والقبلي الذي لقيته عملية "الكرامة" في المنطقة الشرقية، منذ عام 2014. وعلى الرغم من أن المنطقة لم تشهد، حتى الآن، مظاهر رفض وتمرُّد واسعة ومعلنة، فإن مؤشرات عدة تنبئ بأنّ "الماكينة" الإعلامية والأمنية والاجتماعية لحفتر تواجه صعوباتٍ جمّة في ترويج مواصلة العملية العسكرية غرب البلاد، وضبط الانفلاتات الممكنة، في حاضنة اجتماعية تتابع يوميًّا وصول جثامين المقاتلين إلى عائلاتهم، من دون أيّ أفقٍ لحسم معركة تتعقد معطياتها المحلية والإقليمية والدولية تعقُّدًا مضطردًا. ولعل الحضور الكثيف للمقاتلين الأجانب في مختلف محاور القتال يمثّل مؤشرًا آخر دالًّا على تراجع قدرة معسكر حفتر على الحشد والتجنيد في المنطقة الشرقية، وفي الحواضن الموالية له في المنطقتين الغربية والوسطى، وهو حضورٌ لا يمكن التعويل عليه كليًّا في حسم المعركة، كما لا يمكن التعويل على تدخُّل الرعاة الإقليميين لدى دول الجوار لجلب مزيد من المقاتلين، على الرغم من تواتر الرحلات بين أبوظبي والخرطوم ونجامينا؛ وذلك في ظل المصاعب الاقتصادية الجدّية التي تمرُّ بها كلّ من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية؛ بسبب تداعيات جائحة "كورونا"، وانهيار أسعار النفط، وتراجع الطلب على خدمات الموانئ وتجارة الترانزيت.
من غير الواضح، حتى الآن، ما إذا كان قرار حفتر المتمثّل باستلام السلطة، بصفته العسكرية، قد اتُّخذ على مستوى قيادة المنطقة الشرقية أو بناءً على طلب من الرعاة الإقليميين، لكنه يظل، في كل الأحوال، عاجزًا عن تغيير الواقع على الأرض، فعلى مستوى المنطقة الشرقية، يمسك حفتر بجميع السلطات العسكرية والأمنية والتنفيذية، منذ عام 2014، ولا تمثّل الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني سوى واجهة سياسية لا سلطة واقعية لها على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجلس النواب – شق طبرق؛ العاجز عن عَقد أيّ جلسةٍ مكتملة النصاب منذ عدة أعوام. وبناءً عليه، لا يغيّر الإعلان الأخير شيئًا من واقع الحال هناك، حتى لو تمَّ تشكيل مجلس حُكم عسكري وحكومة جديدَين تحت إشراف حفتر في الفترة المقبلة. أما على مستوى المنطقتين الغربية والوسطى، فلا نفوذَ حقيقيًّا لحفتر إلا في نطاق جغرافي ضيق جدًّا يقتصر، حاليًّا، على سرت وترهونة وبعض المكوّنات الاجتماعية في بني وليد والزنتان، علمًا أنّ هذه الحواضن قد لا تصمد طويلًا. أما في الجنوب، المحكوم بتوازنات اجتماعية وقبلية وإثنية متشابكة ومعقدة، فقد بدأت ملامح إعادة تشكيل للولاءات على نحو يتوافق مع مجريات الأحداث الأخيرة؛ ما قد يؤدي إلى انحسار نفوذ حفتر العسكري المتركز، أصلًا، في مواقع محدودة في مدن سبها والكفرة وبلدات أخرى أقل أهمية.
تدفع هذه المعطيات مجتمعةً إلى استنتاج مفاده أنّ سيناريو التقسيم كان حاضرًا في إعلان حفتر؛ فهو يعرف أنّ تنصيب نفسه حاكمًا على ليبيا، في ظل التشظي السياسي والاجتماعي الحالي، وفي سياقٍ تشهد فيه حواضنه انحسارًا متسارعًا، لا سندَ فعليًّا له على الأرض، وأنّ مفعول هذا القرار سيظل مقتصرًا على المنطقة الشرقية والهلال النفطي، في أفضل الأحوال. ويتعزّز توقع هذا السيناريو من خلال التدقيق في مدلولات الخطاب السياسي والإعلامي الذي رافق الإعلان، والذي تميَّز باستحضار مصطلح "برقة" بدلًا من "المنطقة الشرقية"، وهو مصطلحٌ يحيل على مرحلة ما قبل توحيد ليبيا وظهورها بحدودها الحالية، ومن خلال تقديم الصراع الجاري بصورة صراعٍ بين شرق البلاد وغربها، وشحنه بسردياتٍ تاريخيةٍ متعلقةٍ بمكانة برقة القيادية وأدوار قبائلها، ومن خلال بيانات المبايعة التي تُتلى بعد الاجتماعات القبلية.
مآلات "التفويض"
تظل مآلات "تفويض" حفتر لحكم ليبيا، حتى في حال اختزال الأمر في المنطقة الشرقية، محكومةً بتطور الميدان، وبإرادات القوى الإقليمية المتدخلة في الشأن الليبي، وبقدرة حفتر نفسه على ضبط الوضع في المنطقة الشرقية، فعلى الجبهة العسكرية، ينحو سير الأحداث، بناءً على قراءة موضوعية لما تحقق خلال الأسابيع الأخيرة وللتحضيرات الجارية لحسم أكثر من محور، نحو مزيدٍ من انحسار نفوذ اللواء المتقاعد، فحكومة الوفاق الوطني تبدو ماضيةً، على الرغم من التباينات في معسكرها وضعف أدائها في أكثر من ملف، في استثمار الاتفاقيات المبرمة مع الشريك التركي التي كان لها الدور الأبرز في الانقلاب الذي حصل في المشهد العسكري. وتذهب مؤشّرات عدة إلى أن حسم الموقف في قاعدة الوطية قد لا يتأخر كثيرًا، وأن التدريبات التي أنجزها سلاح الجو التركي فوق المتوسط، منذ أيام، والتي شملت تزويد الطائرات المقاتلة النفاثة بالوقود في الجو، متصلة بهذه الاستعدادات، نظرًا إلى أنّ القاعدة تشتمل على تحصيناتٍ كبيرةٍ تحت الأرض، يصعب على الطيران المسيّر تدميرها. وعلى الرغم من أن القاعدة، حاليًّا، خارج الخدمة بعد تدمير معظم منشآتها، فإن السيطرة الكاملة عليها ستمثل نصرًا سياسيًّا ودعائيًّا كبيرًا لحكومة الوفاق. أما بخصوص ترهونة، فإن استرجاعها سيمكّن حكومة الوفاق من توجيه ضربةٍ موجعةٍ إلى معنويات الخصم، وفتح الطريق نحو قاعدة الجفرة وسرت والهلال النفطي.
وبالنظر إلى الوضع الحالي لمعسكر حفتر، يظل تماسك الجبهة الاجتماعية والسياسية الموالية له في المنطقة الشرقية محدّدًا آخر مهمًّا لمصير "قرار التفويض"، ولعل تجنّب حفتر البتّ في مصير مجلس النواب – قسم طبرق ورئيسه عقيلة صالح المنحدر من قبيلة العبيدات (إحدى القبائل النافذة في المنطقة)، فضلًا عن مصير حكومة عبد الله الثني، يأتي في إطار الحذر من تفكّك الحزام السياسي والقبلي الذي يدعمه، منذ انطلاق "عملية الكرامة" عام 2014. وتظهر أمثلة سابقة، مثل ثورة 17 فبراير وإطلاق "عملية الكرامة" أيضًا، أنّ لموازين القوى تأثيرًا مهمًّا في تغيير الولاءات السياسية والقبلية. وما يزيد من تعقيد الوضع في المنطقة الشرقية واهتزازه، ورود أنباء عن نية حكومة الوفاق تشكيل "غرفة عمليات تحرير المنطقة الشرقية" بقيادة ضابط كبير من المنطقة، وبمشاركة كتائب من أبناء المنطقة المهجّرين إلى المنطقة الغربية، في إشارة ضمنية إلى نية حكومة الوفاق مواصلة معركتها في المنطقة الشرقية، بأيدي أبناء قبائلها أنفسهم.
في الأثناء، لم يلقَ قرار حفتر، حتى الآن، قبولًا صريحًا من أيٍّ من القوى الإقليمية أو الدولية أو دول الجوار تحديدًا. والسبب الرئيس لذلك هزائمه العسكرية، وليس حرص الدول الكبرى على الشرعية، فقد دعا السفير الأميركي لدى ليبيا إلى "ضرورة تجنّب الخطوات الأحادية في إملاء مستقبل ليبيا من جانب واحد"، في حين اعتبر الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة اتفاقَ الصخيرات "الإطار الدولي الوحيد للاعتراف بالوضع الليبي". أما وزير الخارجية الروسي فأكد أن "بلاده لا تدعم تصريحات حفتر"، في حين رفضت الرئاسة التونسية "أيّ تقسيم لليبيا".
خاتمة
يبين إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر الاستعراضي تولّي السلطة الكاملة في ليبيا بصيغة "قبول التفويض"، بعد انقلاب المشهد العسكري لصالح حكومة الوفاق الوطني، محدوديةَ الخيارات المتاحة بالنسبة إليه، ومن المحتمل أن يدفعه ذلك إلى اختصار الطريق؛ من خلال تقسيم البلاد، وتفعيل التفويض المزعوم داخل "إقليم برقة"، ولكن ذلك يبقى مرتهنًا بمآلات المعركة العسكرية الجارية حاليًّا، وبقدرته على تحصيل دعم إقليمي ودولي، وضبط الحاضنة الاجتماعية والقبلية والسياسية التي تسنده في المنطقة الشرقية.
أطلقت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، في 26 آذار/ مارس 2020، عمليةً عسكرية لصد هجوم قوات حفتر على غرب ليبيا، تحت مسمّى "عاصفة السلام"؛ بهدف حماية العاصمة طرابلس ومحيطها من القصف الصاروخي والمدفعي الذي تتعرّض له، والذي ألحق أضرارًا بالغة بأحيائها السكنية ومنشآتها الخدمية وبُناها التحتية. وتتزامن هذه العملية العسكرية مع الذكرى السنوية الأولى لإطلاق حفتر هجومه على العاصمة في 4 أبريل/ نيسان 2019، وبعد أشهر من المبادرات الدولية التي انطلقت مع لقاء موسكو الذي جرى بتنسيق روسي - تركي خلال كانون الثاني/ يناير الماضي.
ومنذ انطلاق الهجوم على العاصمة، في 4 نيسان/ أبريل 2019، وجدت قوات حكومة الوفاق نفسها مجبرةً على اتخاذ وضعية الدفاع؛ لافتقارها إلى التنسيق والتسليح الجيد، وإلى غطاء جوّي فاعل. واقتصرت مبادراتها الهجومية على العملية العسكرية التي أدّت إلى استرجاع مدينة غريان، في أواخر حزيران/ يونيو من العام الماضي. ولئن نجح هذا التكتيك العسكري في منع قوات حفتر من المزيد من التقدّم، فإن تكلفته البشرية والمادية كانت عالية؛ إذ ظلت العاصمة في مرمى القصف، المدفعي والصاروخي والجوّي، وتفاقمت أزمة النزوح من الأحياء المحاذية لمحاور القتال أو الواقعة ضمنها.
ومنذ إطلاق عملية "عاصفة السلام"، شهدت المنطقتان، الغربية والوسطى، نشاطًا مكثفًا لسلاح الجو التابع لحكومة الوفاق الوطني، حيث شملت غاراته تجمعات قوات حفتر؛ مِن سرت شرقًا إلى الحدود التونسية غربًا. ومقابل ذلك، تراجعت طلعات الطيران (الحربي والمسيّر)، الداعمة لحفتر، بعد أن ظلّت الفاعل العسكري الأبرز على امتداد عامٍ كامل، وخلال فترة طويلة نسبيًّا من احتكار الأجواء. وتركّزت ضربات طيران "الوفاق" على محاور قتالية رئيسة، حتى الآن، هي: منطقة الوشكة، وأبو قرين بين مصراتة وسرت، وقاعدة الوطية جنوب غرب العاصمة، ومدينة ترهونة التي تُعد غرفة العمليات الرئيسة لقوات حفتر في المنطقة الغربية، ومدن الشريط الساحلي الغربي.
أدّى الاستخدام المكثف للطيران المسيّر من قوات حكومة الوفاق الوطني إلى إحداث انقلابٍ في المشهد العسكري بالمنطقتين؛ الغربية والوسطى، ففي الأخيرة، ألحقت الغارات الجوية أضرارًا بشرية ومادية فادحة بقوات حفتر في محورَي الوشكة وأبو قرين، ومنعتها من التقدم في اتجاه الحدود الإدارية لمصراتة. أما في المنطقة الساحلية الغربية وما جاورها، فقد حققت قوات الوفاق اختراقًا ميدانيًّا كبيرًا باستعادة السيطرة على كامل الشريط الساحلي الواقع بين العاصمة طرابلس والحدود التونسية، واسترجاع مدن عدة، هي: صرمان وصبراتة والجميل ورقدالين وزلطن والعسة والطويلة، في عملية عسكرية خاطفة تمَّ خلالها الحصول على كميات كبيرة من الغنائم المتمثلة بالأسلحة والعتاد والآليات، إضافةً إلى تفكيك المجموعات المدخلية المسلحة، ولجوء مجموعات أخرى إلى قاعدة الوطية. وفي الآن نفسه، أدّت الغارات المتتالية التي شنَّها الطيران المسيّر إلى تحييد قاعدة الوطية الاستراتيجية وإخراجها من الخدمة، بعد أن كانت منطلقًا للغارات الجوية على طرابلس والمنطقة الغربية، ومعسكرًا خلفيًّا لمرتزقة شركة فاغنر الروسية.
وما إن تمَّ بسطُ السيطرة على الشريط الساحلي الغربي وتحييد قاعدة الوطية، حتى توجهت قوات الوفاق إلى مدينة ترهونة التي تُعد غرفة العمليات الرئيسة في المنطقة الغربية، وتمكّنت من التوغل في حدودها الإدارية، بالتوازي مع شنِّ ضربات جوية استهدفت معسكرات قوة "الكانيات" التابعة لحفتر داخلها. وعلى الرغم من أن قوات "الوفاق" حققت تقدمًا ميدانيًّا مهمًّا خلال اليوم الأول من تحرّكها نحو ترهونة، فإنها اكتفت بتأمين ما حققته من مكاسب وفرضت حصارًا حول المدينة، ويبدو أن طبيعة المعركة هناك لا تسمح بتكرار سيناريو العملية الخاطفة التي شهدها الشريط الساحلي الغربي؛ فمدينة ترهونة تقع ضمن مجال جغرافي تحكمه التضاريس المرتفعة، ويخترقه طريقان فقط، يؤديان إلى وسط المدينة، إضافةً إلى النسيج الاجتماعي المعقد في المنطقة الذي يمتد إلى التخوم الجنوبية للعاصمة. من جهة أخرى، لا توجد خيارات كثيرة أمام قوة "الكانيات"؛ وهي النواة الصلبة لقوات حفتر في المدينة، ما يدعوها إلى الاستماتة في الدفاع عن مواقعها الأخيرة، مستغلةً صعوبة لجوء قوات الوفاق إلى سلاح الطيران، بكثافة؛ نظرًا إلى اكتظاظ المدينة بالسكان.
في الحصيلة، نجحت قوات الوفاق، خلال شهر من إطلاق عملية "عاصفة السلام" في تأمين الشريط الساحلي الغربي، وإخراج قاعدة الوطية من الخدمة، وفرض حصار على مدينة ترهونة، وتضييق الخناق على قوافل الإمدادات القادمة من المنطقة الشرقية، عبر قاعدة الجفرة. وفي هذه الأثناء، يظل تأمين العاصمة من القصف الذي يمتدّ إليها يوميًّا مرتهنًا بتطور الوضع الميداني في ترهونة، ففي حال تواصُل قطعِ خطوط الإمداد، وتمكُّن قوات الوفاق من استعادة ترهونة، فإنّ مثل هذا التطور سيكون مُؤذنًا بانتهاء المعركة في التخوم الجنوبية للعاصمة.
إعلان حفتر التفويض
في هذا السياق، يمكن قراءة إعلان حفتر "قبول التفويض الشعبي باستلام السلطة"، وارتباطه بانقلاب الوضع الميداني خلال الشهر الأخير، وما أفرزه من انكفاءٍ لقواته في أكثر من محور. فقد ضيقت هذه التطورات خياراته، بعد أن رفض، في أكثر من مناسبة، أي مبادرات سياسية (إقليمية ودولية)، من شأنها منحه موقع الشريك في المشهد السياسي الليبي. كما أنه، بعد التقدّم السريع الذي حققته قوات الوفاق، وجد نفسه في موقع العاجز عن حماية حواضنه في المنطقة الغربية من البلاد. من ناحية أخرى، تمثل التكلفة البشرية العالية التي تكبدتها قبائل المنطقة الشرقية ومدنها من جرَّاء الهجوم على طرابلس، من دون تحقيق الحسم السريع والسهل الذي وعدها به حفتر عند إطلاق العملية العسكرية منذ عامٍ، عاملًا ضاغطًا إضافيًّا يدفع إلى تصدُّع الدعم الاجتماعي والقبلي الذي لقيته عملية "الكرامة" في المنطقة الشرقية، منذ عام 2014. وعلى الرغم من أن المنطقة لم تشهد، حتى الآن، مظاهر رفض وتمرُّد واسعة ومعلنة، فإن مؤشرات عدة تنبئ بأنّ "الماكينة" الإعلامية والأمنية والاجتماعية لحفتر تواجه صعوباتٍ جمّة في ترويج مواصلة العملية العسكرية غرب البلاد، وضبط الانفلاتات الممكنة، في حاضنة اجتماعية تتابع يوميًّا وصول جثامين المقاتلين إلى عائلاتهم، من دون أيّ أفقٍ لحسم معركة تتعقد معطياتها المحلية والإقليمية والدولية تعقُّدًا مضطردًا. ولعل الحضور الكثيف للمقاتلين الأجانب في مختلف محاور القتال يمثّل مؤشرًا آخر دالًّا على تراجع قدرة معسكر حفتر على الحشد والتجنيد في المنطقة الشرقية، وفي الحواضن الموالية له في المنطقتين الغربية والوسطى، وهو حضورٌ لا يمكن التعويل عليه كليًّا في حسم المعركة، كما لا يمكن التعويل على تدخُّل الرعاة الإقليميين لدى دول الجوار لجلب مزيد من المقاتلين، على الرغم من تواتر الرحلات بين أبوظبي والخرطوم ونجامينا؛ وذلك في ظل المصاعب الاقتصادية الجدّية التي تمرُّ بها كلّ من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية؛ بسبب تداعيات جائحة "كورونا"، وانهيار أسعار النفط، وتراجع الطلب على خدمات الموانئ وتجارة الترانزيت.
من غير الواضح، حتى الآن، ما إذا كان قرار حفتر المتمثّل باستلام السلطة، بصفته العسكرية، قد اتُّخذ على مستوى قيادة المنطقة الشرقية أو بناءً على طلب من الرعاة الإقليميين، لكنه يظل، في كل الأحوال، عاجزًا عن تغيير الواقع على الأرض، فعلى مستوى المنطقة الشرقية، يمسك حفتر بجميع السلطات العسكرية والأمنية والتنفيذية، منذ عام 2014، ولا تمثّل الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني سوى واجهة سياسية لا سلطة واقعية لها على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجلس النواب – شق طبرق؛ العاجز عن عَقد أيّ جلسةٍ مكتملة النصاب منذ عدة أعوام. وبناءً عليه، لا يغيّر الإعلان الأخير شيئًا من واقع الحال هناك، حتى لو تمَّ تشكيل مجلس حُكم عسكري وحكومة جديدَين تحت إشراف حفتر في الفترة المقبلة. أما على مستوى المنطقتين الغربية والوسطى، فلا نفوذَ حقيقيًّا لحفتر إلا في نطاق جغرافي ضيق جدًّا يقتصر، حاليًّا، على سرت وترهونة وبعض المكوّنات الاجتماعية في بني وليد والزنتان، علمًا أنّ هذه الحواضن قد لا تصمد طويلًا. أما في الجنوب، المحكوم بتوازنات اجتماعية وقبلية وإثنية متشابكة ومعقدة، فقد بدأت ملامح إعادة تشكيل للولاءات على نحو يتوافق مع مجريات الأحداث الأخيرة؛ ما قد يؤدي إلى انحسار نفوذ حفتر العسكري المتركز، أصلًا، في مواقع محدودة في مدن سبها والكفرة وبلدات أخرى أقل أهمية.
تدفع هذه المعطيات مجتمعةً إلى استنتاج مفاده أنّ سيناريو التقسيم كان حاضرًا في إعلان حفتر؛ فهو يعرف أنّ تنصيب نفسه حاكمًا على ليبيا، في ظل التشظي السياسي والاجتماعي الحالي، وفي سياقٍ تشهد فيه حواضنه انحسارًا متسارعًا، لا سندَ فعليًّا له على الأرض، وأنّ مفعول هذا القرار سيظل مقتصرًا على المنطقة الشرقية والهلال النفطي، في أفضل الأحوال. ويتعزّز توقع هذا السيناريو من خلال التدقيق في مدلولات الخطاب السياسي والإعلامي الذي رافق الإعلان، والذي تميَّز باستحضار مصطلح "برقة" بدلًا من "المنطقة الشرقية"، وهو مصطلحٌ يحيل على مرحلة ما قبل توحيد ليبيا وظهورها بحدودها الحالية، ومن خلال تقديم الصراع الجاري بصورة صراعٍ بين شرق البلاد وغربها، وشحنه بسردياتٍ تاريخيةٍ متعلقةٍ بمكانة برقة القيادية وأدوار قبائلها، ومن خلال بيانات المبايعة التي تُتلى بعد الاجتماعات القبلية.
مآلات "التفويض"
تظل مآلات "تفويض" حفتر لحكم ليبيا، حتى في حال اختزال الأمر في المنطقة الشرقية، محكومةً بتطور الميدان، وبإرادات القوى الإقليمية المتدخلة في الشأن الليبي، وبقدرة حفتر نفسه على ضبط الوضع في المنطقة الشرقية، فعلى الجبهة العسكرية، ينحو سير الأحداث، بناءً على قراءة موضوعية لما تحقق خلال الأسابيع الأخيرة وللتحضيرات الجارية لحسم أكثر من محور، نحو مزيدٍ من انحسار نفوذ اللواء المتقاعد، فحكومة الوفاق الوطني تبدو ماضيةً، على الرغم من التباينات في معسكرها وضعف أدائها في أكثر من ملف، في استثمار الاتفاقيات المبرمة مع الشريك التركي التي كان لها الدور الأبرز في الانقلاب الذي حصل في المشهد العسكري. وتذهب مؤشّرات عدة إلى أن حسم الموقف في قاعدة الوطية قد لا يتأخر كثيرًا، وأن التدريبات التي أنجزها سلاح الجو التركي فوق المتوسط، منذ أيام، والتي شملت تزويد الطائرات المقاتلة النفاثة بالوقود في الجو، متصلة بهذه الاستعدادات، نظرًا إلى أنّ القاعدة تشتمل على تحصيناتٍ كبيرةٍ تحت الأرض، يصعب على الطيران المسيّر تدميرها. وعلى الرغم من أن القاعدة، حاليًّا، خارج الخدمة بعد تدمير معظم منشآتها، فإن السيطرة الكاملة عليها ستمثل نصرًا سياسيًّا ودعائيًّا كبيرًا لحكومة الوفاق. أما بخصوص ترهونة، فإن استرجاعها سيمكّن حكومة الوفاق من توجيه ضربةٍ موجعةٍ إلى معنويات الخصم، وفتح الطريق نحو قاعدة الجفرة وسرت والهلال النفطي.
وبالنظر إلى الوضع الحالي لمعسكر حفتر، يظل تماسك الجبهة الاجتماعية والسياسية الموالية له في المنطقة الشرقية محدّدًا آخر مهمًّا لمصير "قرار التفويض"، ولعل تجنّب حفتر البتّ في مصير مجلس النواب – قسم طبرق ورئيسه عقيلة صالح المنحدر من قبيلة العبيدات (إحدى القبائل النافذة في المنطقة)، فضلًا عن مصير حكومة عبد الله الثني، يأتي في إطار الحذر من تفكّك الحزام السياسي والقبلي الذي يدعمه، منذ انطلاق "عملية الكرامة" عام 2014. وتظهر أمثلة سابقة، مثل ثورة 17 فبراير وإطلاق "عملية الكرامة" أيضًا، أنّ لموازين القوى تأثيرًا مهمًّا في تغيير الولاءات السياسية والقبلية. وما يزيد من تعقيد الوضع في المنطقة الشرقية واهتزازه، ورود أنباء عن نية حكومة الوفاق تشكيل "غرفة عمليات تحرير المنطقة الشرقية" بقيادة ضابط كبير من المنطقة، وبمشاركة كتائب من أبناء المنطقة المهجّرين إلى المنطقة الغربية، في إشارة ضمنية إلى نية حكومة الوفاق مواصلة معركتها في المنطقة الشرقية، بأيدي أبناء قبائلها أنفسهم.
في الأثناء، لم يلقَ قرار حفتر، حتى الآن، قبولًا صريحًا من أيٍّ من القوى الإقليمية أو الدولية أو دول الجوار تحديدًا. والسبب الرئيس لذلك هزائمه العسكرية، وليس حرص الدول الكبرى على الشرعية، فقد دعا السفير الأميركي لدى ليبيا إلى "ضرورة تجنّب الخطوات الأحادية في إملاء مستقبل ليبيا من جانب واحد"، في حين اعتبر الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة اتفاقَ الصخيرات "الإطار الدولي الوحيد للاعتراف بالوضع الليبي". أما وزير الخارجية الروسي فأكد أن "بلاده لا تدعم تصريحات حفتر"، في حين رفضت الرئاسة التونسية "أيّ تقسيم لليبيا".
خاتمة
يبين إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر الاستعراضي تولّي السلطة الكاملة في ليبيا بصيغة "قبول التفويض"، بعد انقلاب المشهد العسكري لصالح حكومة الوفاق الوطني، محدوديةَ الخيارات المتاحة بالنسبة إليه، ومن المحتمل أن يدفعه ذلك إلى اختصار الطريق؛ من خلال تقسيم البلاد، وتفعيل التفويض المزعوم داخل "إقليم برقة"، ولكن ذلك يبقى مرتهنًا بمآلات المعركة العسكرية الجارية حاليًّا، وبقدرته على تحصيل دعم إقليمي ودولي، وضبط الحاضنة الاجتماعية والقبلية والسياسية التي تسنده في المنطقة الشرقية.