يا محمد علي

23 سبتمبر 2019
+ الخط -
تنبثق في العشر الأواخر من أيلول، بورقه الأصفر، ملامح فجر عربي مباغتٍ مختلف، ترقص الروح فرحا لأسبابٍ غامضة، ليس لها مبرّر محدّد. تحتشد بالأمل والتوق الذي يبعثه أيلول فينا، واعدا بالأمل الذي طال غيابه عن واقعنا المتردّي على غير صعيد. حتى الطقس، بكل مزاجيته، يعلن تخلّيه مبكّرا عن قسوة حر الصيف، يغدو أكثر رأفة، فيخطر لي أن أواسي بلدي الحزين، مخذولون فيه طلاب المدارس الحكومية الخاوية على مقاعد طلابها، فيما طلاب المدارس الخاصة لم يتغير على سنتهم الدراسية شيء، في تأكيد على طبقية بغيضة، أصبحت واقعا مؤسفا. الطلاب من الحكوميين الأقل حظا بكثير يعبّرون عن سعادةٍ بالغة من فرط براءتهم بالعطلة المجّانية التي ينعمون بها، جرّاء إضراب معلميهم الذي دخل أسبوعه الثالث، من دون ظهور دخان أبيض، سواء من مبنى وزارة التربية والتعليم أو من مبنى نقابة المعلمين الذي ما زال نشطاء يتوافدون عليه تباعا، للتعبير عن دعم المعلمين الذين تقدمت في بعضهم شكاوى قضائية في حقهم، إثر استمرار الإضراب، فتبرّع عشرات المحامين للدفاع عنهم أمام المحاكم المختصة... تعقيدات كثيرة اعترت المشهد، ما بات يثير القلق في نفوس الأهالي، على الرغم من إصرار بعضهم على التمسك بالأمل، بضرورة الوصول إلى حل سريع، يضمن حقوق المعلمين في حياةٍ أقل قسوة.
وعلى صعيد آخر، وخروجا على التقليد، يغيب صوت فيروز عن صباحي هذا، وينطلق صوت محمد علي، الشاب المصري الأكثر شهرة وشعبية الآن في العالم العربي. الظاهرة العجيبة المباغتة التي قلبت الموازين في وقت قياسي خاطف، وقد هزّت فيديوهاته المتتابعة أركان نظام متآكل، آيلٍ إلى السقوط، وهو أوهن من بيت العنكبوت، على الرغم من مظاهر العسكرة من ثبات وقوة وهمية، لم تفلح في حجب مقدار الفساد والاستبداد والظلم والفقر الذي يرزح تحته شعب مصر العظيم الذي يعشق الحياة، ويتقن فنون عيشها. وفي مقابل ماكنة إعلام مأجورة غاشمة، سلاح محمد علي الوحيد مجرد كاميرا موبايل صغيرة، ووجع كبير يعتصر قلبه، واكتراثٌ حقيقي بما يدور في بلده من إثم وعدوان. يحكي الرجل من حرقة قلبه، وتعبر ملامحه المصرية عن روح شجاعةٍ، وضعها على كفه زاهدا في كل شيء، روحٍ متوثبة، نطقت حقا في زمن الصمت المريب، تشبه أهلها وناسها.
قريب من القلب. على الرغم من حدّة اللغة التي يستخدمها أحيانا، غير أنها عن صدق وإخلاص وانتماء حقيقي لأوجاع الناس ومعاناتهم. لذلك صدّقوه، وآمنوا به إيمان غريق بقشّة. محمد علي ظاهرة مصرية عربية، تفرح القلب، وتبث في قلوب الشباب المتعطش لحياة كريمة لائقة، وتزرع فيهم الحماسة والرغبة في التغيير وعدم الاستسلام لاشتراطات الواقع، ليقينهم بأنه مهما بلغت مرارته، فإنه قابل للتغيير بإرادة الشعب، وتصميمه على نيل الحرية والكرامة والعدل والمساواة، حقوقا إنسانية مشروعة غير قابلة للمساومة، إرضاء لنزوات زعيم ملفق ونزقه، فيما هذا ليس أكثر من شخصية من ورق، محض أضحوكة غير مضحكة، لا ينبغي لها أن تستولي على مقدّرات بلد، بتواطؤ رخيص من إعلام مبتذل مثير للغثيان.
جاء محمد علي في اللحظة المناسبة، ليقول كلمته ولا يمشي، وقد عقد الأحرار النية على الحد من الهراء الفجّ والفاضح الذي طال أكثر مما يليق. أستمع إلى دفق روح محمد علي، عوضا عن فيروز هذا الصباح، وتؤلمني دمعة ترقرت في عينه، وهو يقول "وحشتني مصر يا جماعة". أسقي نباتاتي القليلة، وأتذكّر حين اخترتها باعتناء ورود خبيزة يانعة، بألوان مختلفة، أبيض وأحمر وأرجواني ووردي وأصفر، مطالبها من الحياة بالغة البساطة والوضوح. اكتظت بها نافذتي، وقد ابتعتها من مشتلٍ مجاور، بعد أن تلقيت بامتثال تعليمات البائع الصغير، بكيفية الحفاظ عليها أطول مدة ممكنة.. قال بلهجة الخبير الواثق من نفسه: "اطمئني، خالتي، الخبيزة عينها قوية، بدها شمس وهوا وشوية ميه، وبتعيش طويلا".. ياه، يا محمد علي، هذا بالضبط ما يلزمنا كي نعيش ببساطة ورد الجناين المهيأ للتفتح من جديد.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.