"دفاتر فارهو" وتنبؤات إدوارد سعيد

02 سبتمبر 2019
+ الخط -
الإضافات المهمة للمفكر إدوارد سعيد في نظرية الأدب، وتحديدا في حقل الدراسات الثقافية بشقيها ما بعد الاستعمار والنقد الثقافي، أثارت، وما تزال، اهتماما عالمياً كثيراً يصعب حصر تفاصيله في مقال. وأخيراً، صدرت ترجمة عربية لسيرة المنظّر الفرنسي، تودوروف، أفرد فيها فصلاً لإدوارد سعيد الذي صادقه نحو عقدين.
أسهم سعيد في تقديم قراءة جديدة للأدب العالمي، من خلال اجتراح مفاهيم إجرائية جديدة، كالتمثيل والقراءة الطباقيّة التي تكشف الشيء ونقيضه، وغيرها من مقارباتٍ رفد بها نظرية الأدب والنقد الثقافي الذي يُعنى بربط النصوص بالثقافة والبيئة والتاريخ والمؤثرات السياسية والاقتصادية، فالنص، وفق هذه القراءة، منفتح على بواعث ومؤثرات عديدة. وبذلك تختلف عن تلك القراءات التي تنظر إلى النص بوصفه كياناً معزولاً، أو التي تراه حقلاً مغلقاً على تأويلات لانهائية، على الرغم من أهمية تلك القراءات ودورها الكبير في إثراء النقد والنظرية الأدبية.
ولم يكن لرؤية إدوارد سعيد أن تتبلور لولا ثقافته الكبيرة وقراءته العميقة لسرديات الشرق، وهو الجانب الذي لم يكن ينتبه إليه الفكر الغربي، المتمركز حول ذاته، إلى جانب استفادة صاحب "الاستشراق" المفصلية من إرث سابقيه، وخصوصاً غرامشي، وفرانز فانون. كما أن مدرسة سعيد أصبحت لها امتداداتها في أوروبا وأميركا والوطن العربي وكذلك في آسيا، وعلى سبيل المثال ما مثلته الإسهامات المهمة للهندي هومي بابا، والبنغالية جياتري سبيفاك، وغيرهما.
عربيا، أتت كشوفات إدوارد سعيد أكلها، فعلى المستوى الأكاديمي، أصبح مساق الدراسات الثقافية، وخصوصا في فرعه ما بعد الكولونيالي، أصبح الآن يدرّس في جامعات عديدة، من جامعة محمد الخامس في المغرب الأقصى إلى جامعة نزوى في المشرق الأقصى. وإلى جانب تدريسه أكاديميا، أخذت الرواية العربية الحديثة تنحو هذا المنحى الذي بشّر به سعيد، نحو التركيز على المهمش والأجنبي والوافد والقصي. وقد قرأت، أخيرا، مجموعة مهمة من الروايات التي تثري اهتمامات النقد الثقافي، أمثلةً "ثلاثة أيام في الدار البيضاء" لإسماعيل غزالي، عن شاب أفريقي يسقط عليه جدار فندق مهجور، و"الحياة من دوني" لعائشة البصري، عن امرأة صينية تعيش في الدار البيضاء حصلت الساردة على مخطوط لسيرة حياتها من سوقٍ للخردة كانت بطلة الرواية تعمل فيه. وقبل ذلك، رواية "التي تعد السلام" لهدى حمد التي تتمحور فكرتها على عاملات المنازل في عُمان، ورواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي التي تصب في السياق العام نفسه. وأخيرا، الرواية الأولى للعمانية ليلى عبدالله "دفاتر فارهو" (دار المتوسط، ميلانو، 2018) التي تدور في هذا الفلك، إذ تتناول عدة شخصيات من الهامش، فهناك فرح أو فارهو، الطفل الصومالي، وأمه الإثيوبية التي تعمل في المنازل، وهناك الخال العربيد المستبد والمجرم. وهي رواية تقاطع شخصيات الشقاء، وإن حملت عنوان فارهو الطفل، وهي أيضا رواية أمهات بامتياز، فربما يتمنّى القارئ لو أفردت الكاتبة لكل أم فصلاً، فهناك أم قاسم الأفغانية، وهي شاعرةٌ قتلها زوجُها حرقا حين اكتشف دفاتر ما تكتب من قصائد، وأم عبد الصمد البنغالي التي قطع اللصوص يدها من أجل سرقة الذهب حين كانت قادمة من عرسٍ في الليل. وهناك أم فارهو التي تشرّدت بين عدة بلاد. ولكنْ تظل هذه بياضاتٍ افتراضيةً تخص القارئ المتعطش لمعرفة مصائر الشخصيات. وربما كانت الكاتبة ذات خلفية قصصية، وهذه روايتها الأولى، فانعكس القص، بما يتميّز به من إشارات تكثيف واختزال، على صياغة الرواية، وكذلك على تسليط ضوءٍ كافٍ على بعض شخصياتها، مثل شخصية الصحافي الذي يظهر بخفوت، وكأنما يقتصر دوره على توجيه فصول الرواية. ولكن الرواية، على الرغم من ذلك، تعد مغامرة مهمة للكاتبة، جلبت لها اهتماما إعلاميا لافتاً.
زمن الرواية في "دفاتر فارهو" حديثٌ وآني. ويمكن تلمس ذلك من بعض الإشارات، مثل وجود لاجئين سوريين كثيرين. كما يمكن تلمس فضاء الرواية من طبيعة اللهجة، وكذا من خلال لفظة "الدرهم". ولكن هذا التخفي أضفى بُعدا شموليا مهمّا على الرواية، بأن تخترق فضاءات مناطق الخليج من دون تحديد صارم لبلد بعينه؛ ليسلَّط الضوء بالتالي على شريحةٍ تحتانيةٍ مهمةٍ، تحتل مساحة سكانية واسعة في دول الخليج، يترفع الإعلام الرسمي عن تسليط الضوء على ثقافتها وأحوالها.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي