11 نوفمبر 2024
عاطف أبو سيف.. هذه الحكاية
أياما فقط، قبل الاعتداء عليه في غزة، بقضبان الحديد والعصي واللكمات، بشناعةٍ وقسوةٍ، صدرت للروائي الفلسطيني، عاطف أبو سيف (1974)، روايتُه الخامسة "مشاة لا يعبرون الطريق" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2019). يعزّز فيها، وهو حامل الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أوروبية، وعضو المجلس المركزي في حركة فتح، موقعَه الذي صار، في السنوات الخمس الماضية، أساسيا في المدوّنة الروائية الفلسطينية الجديدة. ويعزّز أيضا اسمَه صاحب إسهامٍ نوعي ولافت، أخيرا، في التعبير عمّا يغالبه أهل قطاع غزة من عنتٍ وأحوال صعبة، وعن ذاكرتهم، وراهنهم، وأشواقهم، وأحلامهم. يكتب حكايات غزة ومروّياتها وقصصها، وهو الذي دوّن مرة إن غزة هي "المكان المرغوب في الوعي الجماعي (الفلسطيني)، القادر دوما على أن يعيد إنتاج الحكاية". وهذه روايته الجديدة (203 صفحات)، يزعم صاحب هذه الكلمات إن أبو سيف ينجح فيها في اختبار قدرته على صنع الحكاية الرهيفة، والتي يلتبس فيها المتخيّل مع الواقع، بكيفيةٍ أفادت من الإيهام والمفارقة، من استيلاد القصّة من القصة، من الفكاهة والسخرية. هي روايةٌ تبدو لقارئ متعجلٍ بوليسيةً، غير أنها ليست كذلك، وإنما هي عن بناء الحقيقيِّ من غير الحقيقي، عن حاجة الإنسان إلى ماهيةٍ أخرى، غير كينونته جسدا وروحا، وإنما صاحب حكاية أيضا.
هناك جريمةٌ غامضةٌ في الرواية، ومبعث الغموض فيها ليس في عدم القدرة على تعيين الجاني، وإنما في الشك أصلا في حدوثها. هل ما تعرّض له الرجل الثمانيني في شارعٍ في المخيم (أي مخيم؟) في قطاع غزة كان دهسا متعمّدا من سائق شاحنةٍ استطاع الفرار، أم كان حادث سير، أم أن الرجل وقع أرضا، لمّا مرت الشاحنة قربه؟ ولكن، من هو هذا الرجل؟ ما اسمُه؟ ما حكايتُه؟ كل شخوص الرواية بلا أسماء، يعرّفنا السارد بأقارب وأصدقاء لهم، أما هم فوظائفهم وأعمالهم ومهنهم تدلّ عليهم، فتاة جامعية وبائع فاكهة وصحافي وشرطي... .السارد أكثر من واحد في صفحات الرواية الشديدة الكثافة، والمشحونة بإيحاءاتٍ، عاليةِ النباهة، إلى واقع سياسي ومعيشي في غزة، في العام 2016 تحديدا، حيث الحصار والانقسام والاحتلال .. والأنفاق.
ليس ثمّة حركة حماس في الرواية، ولا حركة فتح. لا حضور لهما، فالرواية تُرسل مقولتها بما تبنيه من حكاياتٍ تتناسل من بعضِها، وتتصل ببعضها. ولذلك، كان غزو بيروت، ودخول ياسر عرفات غزة، واتفاق أوسلو، وكانت الهجرة في 1948 والخسران في حزيران 1967، وكانت مروياتٌ عن فلسطينيين في أكثر من شتات. وهناك محاولة قتل، أو اغتيال، كما يحدس الشرطي الذي يتابع واقعة الدهس، ويستنطق الشهود ومن نقلوا الرجل إلى المستشفى، حيث فضاء الرواية الأكثر مساحةً في القص. يكتب الصحافي، الشخصية النابهة في هذا العمل الأدبي، إن "الناس لم يعودوا ناسا، فقدوا إنسانيتهم، سقا الله أيام زمان..". ويكتب أن "القصة مثيرة.. الجاني هرب من العدالة". وينكتب، في سطورٍ أخرى، "لم يصدّق أن قسوةً يمكن أن تشلّ إنسانية المرء..". وبإيحاءٍ من هذه العبارات المستلّة من نصّ مسترسل، يمضي السرد فيه في حيويةٍ جذّابة، ماكرةٍ أحيانا، لواحدنا أن يقول العبارات نفسها بشأن الحقيقي الذي تعرّض له عاطف أبو سيف، أي الاعتداء المدان، والذي ربما كان محاولة اغتيالٍ، نجّاه الله ومتّعه بالصحة. الجاني هنا أيضا هرب من العدالة، وهم ملثّمون على ما قرأنا، ذاع أنهم ينتسبون إلى "مليشيات" حركة حماس، وقد أعملوا في صديقنا الكاتب "قسوةً تشلّ إنسانية المرء". ومرجّحٌ أن هؤلاء إنما قصدوا في أبو سيف فتحاويّته، فلم يقرأوا نصوصه الحارّة عن غزة وأهلها، وبالإنكليزية أيضا.
لا أثر للعجوز المدهوس في "مشاة لا يعبرون الطريق" في نهايتها. ظل، طوال صفحاتها، جسدا في شبه موت سريري. لا ينطق. ولم يزره أيٌّ من أهله، ولا أحد يعرفه من الشهود. يختفي، بعد سطورٍ من قصة كتبها عنه الصحفي، أو صنعها، أو تخيّلها، أو أنشاها ليبني حكايةً مثيرة (لا إثارة في حادث السير العادي). تُختتم هذه القصة المصنوعة بعد أن تزوره حبيبتُه (!).. وتستيقظ في الرواية قصة حب أخرى، بين طالبة الجامعة وأحد الشهود على حادث السير الذي لم يقع (ربما وقع!).. أما حادث الاعتداء على عاطف أبو سيف فحقيقي تماما، شوهدت تفاصيلُه الشنيعة، ثم كانت الغبطة بنجاة الكاتب، وكان الحب العريض الذي شمَلَه، من قرّائه وأصدقائه، فيما الجناةُ سيبقون هاربين من العدالة، في راهنٍ فلسطينيٍّ يقيم في القاع.
هناك جريمةٌ غامضةٌ في الرواية، ومبعث الغموض فيها ليس في عدم القدرة على تعيين الجاني، وإنما في الشك أصلا في حدوثها. هل ما تعرّض له الرجل الثمانيني في شارعٍ في المخيم (أي مخيم؟) في قطاع غزة كان دهسا متعمّدا من سائق شاحنةٍ استطاع الفرار، أم كان حادث سير، أم أن الرجل وقع أرضا، لمّا مرت الشاحنة قربه؟ ولكن، من هو هذا الرجل؟ ما اسمُه؟ ما حكايتُه؟ كل شخوص الرواية بلا أسماء، يعرّفنا السارد بأقارب وأصدقاء لهم، أما هم فوظائفهم وأعمالهم ومهنهم تدلّ عليهم، فتاة جامعية وبائع فاكهة وصحافي وشرطي... .السارد أكثر من واحد في صفحات الرواية الشديدة الكثافة، والمشحونة بإيحاءاتٍ، عاليةِ النباهة، إلى واقع سياسي ومعيشي في غزة، في العام 2016 تحديدا، حيث الحصار والانقسام والاحتلال .. والأنفاق.
ليس ثمّة حركة حماس في الرواية، ولا حركة فتح. لا حضور لهما، فالرواية تُرسل مقولتها بما تبنيه من حكاياتٍ تتناسل من بعضِها، وتتصل ببعضها. ولذلك، كان غزو بيروت، ودخول ياسر عرفات غزة، واتفاق أوسلو، وكانت الهجرة في 1948 والخسران في حزيران 1967، وكانت مروياتٌ عن فلسطينيين في أكثر من شتات. وهناك محاولة قتل، أو اغتيال، كما يحدس الشرطي الذي يتابع واقعة الدهس، ويستنطق الشهود ومن نقلوا الرجل إلى المستشفى، حيث فضاء الرواية الأكثر مساحةً في القص. يكتب الصحافي، الشخصية النابهة في هذا العمل الأدبي، إن "الناس لم يعودوا ناسا، فقدوا إنسانيتهم، سقا الله أيام زمان..". ويكتب أن "القصة مثيرة.. الجاني هرب من العدالة". وينكتب، في سطورٍ أخرى، "لم يصدّق أن قسوةً يمكن أن تشلّ إنسانية المرء..". وبإيحاءٍ من هذه العبارات المستلّة من نصّ مسترسل، يمضي السرد فيه في حيويةٍ جذّابة، ماكرةٍ أحيانا، لواحدنا أن يقول العبارات نفسها بشأن الحقيقي الذي تعرّض له عاطف أبو سيف، أي الاعتداء المدان، والذي ربما كان محاولة اغتيالٍ، نجّاه الله ومتّعه بالصحة. الجاني هنا أيضا هرب من العدالة، وهم ملثّمون على ما قرأنا، ذاع أنهم ينتسبون إلى "مليشيات" حركة حماس، وقد أعملوا في صديقنا الكاتب "قسوةً تشلّ إنسانية المرء". ومرجّحٌ أن هؤلاء إنما قصدوا في أبو سيف فتحاويّته، فلم يقرأوا نصوصه الحارّة عن غزة وأهلها، وبالإنكليزية أيضا.
لا أثر للعجوز المدهوس في "مشاة لا يعبرون الطريق" في نهايتها. ظل، طوال صفحاتها، جسدا في شبه موت سريري. لا ينطق. ولم يزره أيٌّ من أهله، ولا أحد يعرفه من الشهود. يختفي، بعد سطورٍ من قصة كتبها عنه الصحفي، أو صنعها، أو تخيّلها، أو أنشاها ليبني حكايةً مثيرة (لا إثارة في حادث السير العادي). تُختتم هذه القصة المصنوعة بعد أن تزوره حبيبتُه (!).. وتستيقظ في الرواية قصة حب أخرى، بين طالبة الجامعة وأحد الشهود على حادث السير الذي لم يقع (ربما وقع!).. أما حادث الاعتداء على عاطف أبو سيف فحقيقي تماما، شوهدت تفاصيلُه الشنيعة، ثم كانت الغبطة بنجاة الكاتب، وكان الحب العريض الذي شمَلَه، من قرّائه وأصدقائه، فيما الجناةُ سيبقون هاربين من العدالة، في راهنٍ فلسطينيٍّ يقيم في القاع.