14 مايو 2024
حماية اللغة العربيّة بين الهاجس الوطنيّ والرّؤية القوميّة
خالد الجبر
انتظمت البلدانَ العربيّة في آخر عقدين هواجسُ تقنين حماية اللغة العربيّة، فصدر قانونٌ لحمايتها سنة 2015 في الأردن، ومارتْ مصر بقانون شبيه منذ 1982 لم يتحقّق منه شيء، ثمّ قدّم مجمع اللغة العربيّة قانونًا لحماية اللغة العربيّة سنة 2017 طُوِيَ في الأدراج، وما زالت الساحة المصريّة تشهد مبادرات لتفعيل قانون كهذا من دون جدوى. وكذلك الأمر في الجزائر التي أصدرت مراسيم رئاسيّة متعاقبة منذ سنة 1966، حتّى إنشاء المجلس الأعلى للغة العربيّة سنة 1996، وواجه قانون تعميم اللغة العربيّة فيها انتكاساتٍ عديدةً من جماعات الضّغط الفرانكوفونيّة بعد تجميد العمل به فور صدوره سنة 1992، وصدر في تونس قانون مشابه سنة 2014 بعد إنشاء جمعية تنمية اللغة العربية وحمايتها سنة 2011، وأُنشئَت في المغرب جمعيّة لحماية اللغة العربية سنة 2007، والائتلاف الوطنيّ من أجل اللغة العربيّة في المغرب، وظلّ قانون حماية اللغة العربيّة فيها قيد النّظر والنّقاش حتّى الآن... وأحدثُ قوانين حماية اللغة العربيّة صدورًا هو القانون القطريُّ الذي صدرَ ضمن المرسوم الأميريّ رقم 7 مفتَتَح سنة 2019.
انقراض اللّغات
وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) خمسة معايير لتصنيف اللغات في العالم، تتدرّجُ من تعرُّض لغة ما للخطر إلى إقرار اندثار عددٍ من اللّغات. أوّلها: أن تكون لغة معرّضة للخطر؛ وهي التي يتحدّث بها معظم الأطفال لكن ضمن نطاقٍ ضيّقٍ كأن يتعاملوا بها في حدود البيت مثلاً. وثانيها: أن تكون لغةً مهدّدةً بالانقراض فعلاً؛ وهي تلك التي لم يعد الأطفال يتعلمونها في المنزل، على الرغم من أنها لغتهم الأم. وثالثها: أن تكون لغةً معرّضةً للانقراض بشدة؛ وهي التي يتحدث بها الأجداد والأجيال القديمة، ومع أن جيل الأبوين قد يفهمها، فإنهما لا يتحدثان بها مع أطفالهما أو فيما بينهما. ورابعها: أن تكون اللغة معرّضةً للانقراض بشكل كبيرٍ؛ وهي عندما يكون أصغر المتحدثين بها هم الأجداد وكبار السن، لكن حديثهم بها يكون في أوقاتٍ وجيزةٍ، أو نادرًا ما يتحدثون بها. وآخرها: أن تكون لغةً مندثرةً؛ وهي التي لم يعد يتحدث بها أحد.
وتنضافُ إليها معاييرُ أُخرى تفصيليَّة/ تفضيليَّة لبقاء اللغاتِ، أو تعرُّضها لخطر الانقراض، منها عدد النّاطقين باللغة؛ إذ يُحدَّد العدد الأدنى لبقاء لغةٍ من زوالها بعدد متكلّمين لا يقلّ عن
واللّافتُ في قراءة أطلس اللُّغاتِ المهدّدة بخطر الانقراضِ أنّ قرابة 96% من لغاتِ العالم يتداولُها أقلّ من 4% من سكّان هذا الكوكب، وهي في أكثرها لغاتٌ شفويّة خاصّة، ليست لها رموز كتابيّة، ولا تستخدم في التّعليم والإعلام، ولا يُترجَم منها وإليها، فاللغات الدّاخلةُ في هذا البابِ (التّرجمة) لا تتجاوز 60 لغةً، تقع العربيّة في المرتبة الثّامنة عشرة منها. والمثير أنّ نحو 20% من لغات العالم يتداولُها عدد متكلّمين يقدّر بعشرات الملايين من السكّان في عدّة بلدان، أي إنّها عابرة لمناطقها، في حين أنّ نحو 80% من لغات العالم تمثّل لغاتٍ مستوطنةً، أي إنّ كُلًّا منها محصورةُ الاستعمالِ في بلدٍ واحدٍ لا تتجاوز حدودَه.
وفيما قدّرت الموسوعة الإنكليزيّة (Dorling Kindersley- London, 1997) أنّ قرابة نصف سكّان العالم مع نهايات القرن العشرين كانوا يستخدمون إحدى ثماني لغاتٍ هي الأكثر استعمالًا على ظهر الكوكب: الصّينيّة (1.2 مليار)، الإنكليزية (487 مليونًا)، الهنديّة (437 مليونًا)، الإسبانية (392 مليونًا)، الروسيّة (294 مليونًا)، العربيّة (225 مليونًا)، البرتغالية (184 مليونًا)، الفرنسيّة (125 مليونًا). فقد احتلَّت العربيَّةُ المرتبة السّادسة عالميًّا من حيث عدد النّاطقين بها، مع ضرورة التّحوّط لهذه الأرقام؛ إذ إنّ أكثر النّاطقين بالعربيّة يستعملون لهجاتهم المحكيّة في وجوه نشاطاتهم الحياتيّة.
وتتنبّأ تقارير عدّة بأنّ 50% إلى 90% من اللغاتِ التي يتكلّم بها سكّان الأرض ستكون معرّضةً للانقراض في هذا القرن الحادي والعشرين، ففي البرازيل مثلًا ماتت 540 لغةً من لغات السكّان الأصليّين (75% من إجماليّ عدد اللغات فيها) منذ استعمار البرتغال البلد سنة 1530. وفي شمال شرق آسيا فإنّ ست لغاتٍ فقط هي التي يُتوقَّع لها أن تثبُتَ في وجه اللغة الرّوسيّة من ضمن 47 لغةً في تلك المناطق، إذ انقرض منها عشرون لغةً لا يتجاوزُ عددُ النّاطقينَ بكلّ منها أكثر من 12 فردًا، وثماني لغاتٍ معرّضة لخطرٍ جسيمٍ لأنّها لا تنتقل من
وهذه خريطة اللغات التي انقرضت من الاستعمال في العالم حتّى سنة 2009:
ولا تتضمن خريطة للغات التي انقرضت من الاستعمال في العالم حتّى سنة 2009 اللغة العربيّة، وهي توضح أنّ هذه اللغات تتركّز في أفريقيا وأستراليا والأميركيتين، الجنوبيّة والشّماليّة، وبعضها في أوروبا، وبعضُها على أطراف العالم العربيّ. وتظهر مراجعةٌ متأنّية للخرائط التي نشرتها "يونسكو" أنَّ العربيّة الفصيحة بعيدةٌ عن دائرة الخطورة الحقيقيّة، وعلى الأقلّ ليسَ في هذا القرنِ، بل إنّ "لهجات عربيّة" كثيرة ليست في دائرة الخطورة، وهذا وفق مقاييس "يونسكو" نفسها الّتي صنّفت بحسبها مواقع لغات العالم من خطر الاندثار.
بينَ هواجس وطنيَّة ودوافع قوميَّة
وتبدو هذه الهواجس مستندةً إلى أمرينِ:
- مزاعم بأنّ "يونسكو أعلنت أنّ العربيّة من ضمن 6000 (أو 7000) لغة ستنقرضُ في القرن الأوّل من الألفيّة الثالثة"، وأقول "مزاعم"؛ لأنّها كذلك، إذ لم ترد في وثائق منظمة يونسكو أيّ عبارة صريحة متعلّقة بالعربيَّة، إنّما ثبتَ أن المدير العام ليونسكو قال في كلمة بمناسبة السنة العالمية للغات سنة 2008: "إن أكثر من 50% من اللّغات المحكيَّة حاليًّا في العالم، والبالغ عددها 6000 لغة، معرّضة للاندثار في غضون بضعة أجيال". وينبغي الانتباه إلى صفة "المَحكيَّة"، أي أنها لغاتٌ غير مكتوبة، وليس لها نظام ألفبائي، وهذا لا ينطبق على العربية بأي حالٍ.
- مقرّرات مؤتمر القمّة العربيّة في دمشق سنة 2008 التي أقرَّت ورقة النهوض باللغة العربية بهذا النّصّ: "أقرّت القمة العربية ورقة العمل التي تقدمت بها سورية حول النهوض باللغة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة، وطلبت من الأمانة العامة إحالة المشروع إلى كل الجهات المعنية والمؤسسات ذات الصلة في الدول الأعضاء لدراسته من كل جوانبه واقتراح آليات تنفيذه، وتكليف الأمانة العامة تقديم تقرير عن مدى التقدم المحرز في المشروع إلى
إذًا، من أينَ جاء هذا الإحساسُ بالخوفِ على العربيّة، وتأتّت هذه الرّغبةُ في "حمايتِها"، وتوفير "الدّعم" لها في مختلف مناحي الحياة؟ صحيحٌ أنّ المخاوفَ التي أثارَها تقرير "يونسكو" قد أثّرت تأثيرًا مباشرًا، مع أنّ الفهومَ التي تَلقّاها بها العربُ حين صدرت كانت غير واقعيّة، حتّى بين المثقّفين، والإعلاميّين، وأهل اللغةِ أنفسهم من مجامع ولجان وجمعيّات ومجالس، وكان تأثير الفهمِ الخاطئ هنا إيجابيًّا من باب "رُبّ ضارّةٍ نافعة"، بل لعلّ أهل العربيَّة حاولوا تلقِّيَ ذلك التّقريرِ بما يشبهُ توظيفَه لغاياتٍ أُخرى، من قبيلِ: تخليقِ دورٍ لهم في الحياة العامّة، وإجبار الدُّول العربيّة على توجيه جزء من اهتمامِها لهم ولتخصّصهم. وقد يكون لما أُثِير عن ضعف المحتوى العربيّ على شبكة الإنترنت تأثيرٌ موازٍ له جدواه أيضًا، إذ لم تكن نسبة هذا المحتوى مع بداية الألفيّة الثالثة تتجاوز (0.01%) من المنشور، ونتج عن ذلك المسار مشروع "الذخيرة العربيّة"، واهتمامٌ عربيّ واسعٌ بضرورة زيادة ذلك المحتوى.. لكنّ المسألة أعمقُ من هذا وأوسعُ.
لعلّ الاحتلال الأميركيّ للعراق، وبُزوغَ بوادر إقرار استعمال لغاتٍ غير العربيّة في البلاد العربيّة بصورة رسميّة، كان عاملًا أساسيًّا في هذا الاهتمام، فكانَ إقرارُ الكرديّة لتكون لغة رسميّة في العراق، وهي اللغة الثانية في الدّولة بعد العربيَّة. ثمّ ظهرت بوادرُ مطالب أمازيغيّةٍ مماثِلَة في الشّمال العربيّ الأفريقيّ، وانتزع الأمازيغ اعترافًا رسميًّا في المغرب بلغتهم.. صحيحٌ أنّهم واجهوا معضلةَ أنّ لغتهم محكيّة غير مكتوبة، وليست لها رموزٌ لأبجديّتها، لكنّهم تغلّبوا على ذلك، وأصبحت الأمازيغيّة لغةً رسميّة في البلاد.
كانَ هذا العاملَ الحاسمَ في إحساسِ العرب على مستوىً رسميّ، وعلى أصعدةٍ اجتماعيّة وفكريّة، بالعربيَّة، وبضرورة حمايتها، ودعمها وتقديمها وإبراز وجودها وضرورة تعميمها في التّعليم والمعاملات. ذلك كلّه في مواجهة نزعاتٍ قوميّة إثنيّة عرقيّة وطائفيّة للانفصال
وإذا كانت بعض دول الشمال الإفريقيّ العربيّة محكومةً بصراعٍ ممتدٍّ بين عربٍ وأمازيغ على هويّة الوجود، وهويّة الدّولة/ الوطن الجغرافيّة والدّيمغرافيّة، فضلا عن جوانب أخرى يجسّدها الصّراع، فإنّ دول المشرقِ العربيّ تكادُ تكونُ خِلْوًا من ذلك، إلّا في العراق وسورية، حيث تواجه الدّولتان المشكلة الكرديَّة. فما الذي يجعل دولةً مثل قطر تُصْدِرُ قانُونًا لحماية اللّغة العربيّة، وهي دولةٌ لا تُعانِي مشكلة إثنيّة عرقيّة في التركيبة السكّانيّة؟
الإحساسَ بقيمةِ اللغةِ في البناء الحضاريّ، وأثرِها في تكوينِ المفاهيمِ والتصوُّرات الفكريّة والبنى العقليّة وطرائق التّفكير، ودورها الحاسمِ في تشكُّل الهُويّة القوميّة وتقوية الانتماء التّاريخيّ وعُمقِه، والتّعالقَ العُضويّ مع الجذور المكوّنة للشّخصيّة الوطنيّة، كلَّها عواملُ حاسمةٌ في تعظيم مكانة اللغة في حياة الأمّة، ولا بدّ لذلك من أن يأخذ الشّكل التّشريعيّ الكفيل بتحقيقه. وهنا لا بدّ من التصريح: إنّ الخوف على – يختلف تمامًا عن الخوف من... الخوفُ على يجسِّد حُبّ الحُرّ، والخوفُ من يجسّد جُبْنَ العبد.
بمثل هذا التّناول، يمكنُ النّظر إلى صدور قانون حماية اللغة العربيّة في قطر، متزامنًا مع إنجازاتٍ حقيقيّةٍ تاريخيّة لها تشابُكُها وأثرُها في حركة التّنمية على المستويات كافّة. ولهذا، فالمتوقَّعُ أن تَنْهَدَ مؤسّساتُ الدّولةِ الفاعلةُ في المنظومةِ العربيّة إلى نقلِ هذا الاهتمام إلى المؤسّسات العربيّة، وتجعل هذا القانونِ جزءًا من خلفيّات الاتّفاقيّات الثقافيّة والعلميّة مع دول العالَم أيضًا.
دلالات
مقالات أخرى
02 ديسمبر 2023
10 يوليو 2023
19 ابريل 2023