الاتفاق الأميركي – التركي في شمال شرق سورية.. الرابحون والخاسرون

21 أكتوبر 2019

أردوغان وبنس وفريقا مفاوضات الاتفاق التركي الأميركي بأنقرة (17/10/2019/Getty)

+ الخط -
توصلت الولايات المتحدة الأميركية وتركيا في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 إلى اتفاقٍ يقضي بتعليق تركيا عمليتها العسكرية "نبع السلام" التي أطلقتها يوم 9 تشرين الأول/ أكتوبر في شمال شرق سورية، لمدة خمسة أيام، لإتاحة الفرصة أمام ما تسمى "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، للانسحاب من المنطقة الآمنة التي تعتزم أنقرة إنشاءها بعمق 32 كيلومترًا على الحدود التركية - السورية، وبطول 440 كيلومترًا، لتحقيق هدفٍ واقعيٍّ هو إبعاد القوى الكردية المسلحة عن الحدود التركية، وهدف آخر معلن وغير واقعي هو إعادة توطين الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين فيها.
ظروف التوصل إلى الاتفاق
تم التوصل إلى الاتفاق بعد مفاوضاتٍ أجراها في أنقرة نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لوقف العملية التركية التي بدأت بعد مكالمة هاتفية أجراها في السادس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري الرئيس أردوغان مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والتي قرّر بعدها ترامب سحب قوة أميركية مشكلة من خمسين جنديًا من القوات الخاصة تعمل مع "قسد" في موقعين في شمال سورية؛ ما عُدّ بمنزلة ضوءٍ أخضر أميركيًا لتركيا لبدء عمليتها العسكرية ضد الأكراد. وجاء سحب الجنود مقدمة لسحب كامل القوة الأميركية الموجودة في سورية، والتي يقدّر عددها بنحو ألف جندي. وقد أثار هذا القرار
 عاصفة سياسية في واشنطن؛ إذ اتهم أعضاء في الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، وجنرالات سابقون ومراكز دراسات ووسائل إعلام ترامب بـ "خيانة الحلفاء" الأكراد الذين قاتلوا إلى جانب القوات الأميركية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ودفعهم إلى عقد اتفاق مع النظام السوري، دعوه فيه إلى إعادة الانتشار في المناطق الحدودية مع تركيا. وقد اعتُبر ذلك أيضًا انتصار لروسيا والنظام. ولمواجهة هذه الانتقادات، اضطرّت إدارة ترامب إلى إرسال وفد رفيع إلى أنقرة للتفاوض على وقف العملية التركية، فيما كان ترامب يواجه تهديداتٍ جدّية بالعزل من مجلس النواب الأميركي، بسبب محاولته ابتزاز أوكرانيا للتحقيق في قضايا متصلة بنجل منافسه الديمقراطي المحتمل في الانتخابات الرئاسية القادمة، جوزيف بايدن.
بنود الاتفاق
تضمن الاتفاق الأميركي - التركي ثلاثة عشر بندًا، شملت موافقة تركيا على "وقف إطلاق نار" فوري، وتعليق عمليتها العسكرية مدة 120 ساعة، لتمكين قوات "قسد" من الانسحاب من "المنطقة الآمنة" المزمع إنشاؤها، تحت إشراف الولايات المتحدة، على أن يسري وقف دائم لإطلاق النار فور الانتهاء من انسحاب "قسد" من المنطقة الآمنة كليًا. واتفق الجانبان على 
أهمية إنشاء منطقة آمنة وفاعلة، من أجل معالجة هواجس تركيا الأمنية، بما في ذلك إعادة جمع الأسلحة الثقيلة من "قسد" وتعطيل تحصيناتها وجميع المواقع القتالية الأخرى. وبحسب الاتفاق، ستكون المنطقة الآمنة تحت سيطرة القوات المسلحة التركية في المقام الأول، وسيرفع الطرفان مستوى التنسيق بينهما في كل ما يتعلق بها. كما يؤكد على التزام واشنطن وأنقرة بحماية الأقليات الدينية والإثنية في المنطقة الآمنة. ويشدد على التزامهما أيضًا باستمرار التصدّي لأنشطة "داعش" في شمال شرق سورية، على أن يشمل التنسيق في هذا البند أيضًا مرافق الاحتجاز لأعضائها، فضلًا عن التعامل مع ملف المشرّدين من المدنيين من المناطق التي كان يسيطر عليها "داعش" سابقًا. كما تعهدت تركيا بحماية سكان المنطقة الآمنة، وعدم الإضرار بالمدنيين والبنية التحتية. وأعلن الجانبان التزامهما بوحدة الأراضي السورية، وبالعملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة والهادفة إلى إنهاء الأزمة السورية، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254.
في المقابل، التزمت الولايات المتحدة بإلغاء جميع العقوبات التي تمَّ فرضها على تركيا أخيرا بمجرّد توقف عملية "نبع السلام". كما تعهدت إدارة ترامب بالعمل والتشاور مع الكونغرس، للتأكيد على التقدّم الذي تم إحرازه لتحقيق السلام والأمن في سورية. وشدّد الاتفاق على تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، بوصفهما عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتزامهما بالدفاع المشترك.
تحديات تواجه الاتفاق
على الرغم من تأكيد الطرفين، الأميركي والتركي، حرصهما على إنجاح الاتفاق، فإن ثمّة تحديات تواجه تنفيذه، أهمها: أن الاتفاق ينص على انسحاب "قسد" من "المنطقة الآمنة التي 
تسيطر عليها تركيا، من دون تحديد هذه المنطقة؛ إذ ما زالت العملية العسكرية التركية في مرحلتها الأولى، التي تشمل الشريط الحدودي بين رأس العين وتل أبيض (بطول نحو 130 كيلومترًا). وقد جاء هذا الاتفاق قبل أن تكتمل المنطقة، بحسب ما تخطط تركيا لتشمل كل الشريط الحدودي شرق الفرات (440 كيلومترًا). وبحسب المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، فإن هذا الاتفاق يركز على "تلك المناطق التي توغل فيها الأتراك في شمال شرق سورية"، وأن الأتراك "يجرون الآن مباحثاتٍ خاصة مع الروس والسوريين في مناطق أخرى من الشمال الشرقي وفي منبج إلى الغرب من الفرات".. وتعزّز تصريحات القائد العسكري ل "قسد"، مظلوم عبدي، هذا المعطى، حيث قال إن قرار "وقف إطلاق النار ينسحب فقط على المنطقة التي يدور فيها القتال حاليًا"، وأي دعوة إلى إطلاق النار في خارج المنطقة الواقعة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض تحتاج إلى تفاهمات جديدة..
ويعني هذا أن الاتفاق بات جزءًا من تفاهمات أوسع يتعين على تركيا التوصل إليها مع الروس أيضًا لترتيب أوضاع المنطقة. وهناك مؤشّرات بالفعل على وجود تفاهمات تركية - روسية تسمح للنظام بالعودة للسيطرة على مناطق في شرق الفرات، وتجريد "قسد" من قوتها، وتنسيق أمني تركي مع النظام، باعتبار أن هذا الموضوع يشكل أولويةً بالنسبة إلى تركيا تتضاءل أمامه كل الاعتبارات الأخرى. وكانت قوات روسية ومن النظام السوري دخلت كلًا من منبج وعين العرب/ كوباني، إضافة إلى أجزاء أخرى من شمال شرقي سورية، بالتنسيق مع الأكراد بعد الانسحاب الأميركي. وقد صرّح الرئيس أردوغان أن دخول قوات النظام السوري إلى منبج لا يزعج تركيا. ويسعى الروس، بوضوح، إلى إحياء التنسيق الأمني بين أنقرة ودمشق، بموجب اتفاق أضنة لعام 1998 الذي يربط حق تركيا بولوج الأراضي السورية لمكافحة الإرهاب بالتنسيق مع الحكومة السورية. وينتظر أن يبحث أردوغان هذا الأمر في اجتماع القمة الذي يعقده مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي، يوم الثلاثاء 22 تشرين الأول/ أكتوبر، وكذلك وضع قوات النظام السوري التي باتت الآن توجد في أجزاء من المنطقة الآمنة 
التي يسعى الأتراك إلى إنشائها. وقد أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن بلاده تدعم تطبيق الاتفاق بين دمشق والأكراد، وتعمل على تشجيع التعاون الأمني بين سورية وتركيا على الحدود المشتركة. وكشف المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرينتيف، عن وجود "حوار مستمر بين سورية وتركيا" للحيلولة دون وقوع صدام عسكري بين الطرفين، وأن الاتصالات جارية "عبر قنوات وزارات الدفاع والخارجية والاستخبارات"..
من التحدّيات التي تواجه الاتفاق أيضًا موقف الكونغرس الأميركي من قضية العقوبات؛ إذ تدور شكوك كثيرة حول قدرة إدارة الرئيس ترامب على تنفيذ تعهداتها لإقناع الكونغرس بصرف النظر عن تمرير عقوباتٍ إضافية على تركيا، في ظل وجود استياء كبير بين أغلبية من الحزبين بشأن قرار الانسحاب من سورية والتخلي عن الأكراد؛ ما يعني أن ترامب قد خسر حتى دعم حزبه الجمهوري في هذا السياق. فقد صوّتت أكثرية مجلس النواب، في 16 تشرين الأول/ أكتوبر بأغلبية 354 صوتًا مقابل 60 صوتًا، بما في ذلك ثلثا الأعضاء الجمهوريين، على قرار غير ملزم يعارض قرار ترامب الانسحاب من سورية، فضلًا عن وقوف أغلبية جمهورية مع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ضد القرار، بما في ذلك زعيم الأغلبية، ميتش ماكونيل. ويعتزم الكونغرس، بدعم من الحزبين، التقدم بمشروع قانون يفرض عقوبات على تركيا بسبب عملية "نبع السلام"، ما قد يعني إغضاب أنقرة وتجدد العملية العسكرية.
الرابحون والخاسرون من الاتفاق
تعد "قسد"، ومشروع الإدارة الذاتية الذي روّجته الخاسر الأكبر من الاتفاق التركي - الأميركي الذي نتج من العملية العسكرية التركية؛ إذ تبدّدت طموحاتها في تحقيق حكم ذاتي في
المناطق التي سيطرت عليها في شمال شرق سورية، بعد أن تخلى ترامب عنها، وتركها هدفًا سهلًا لتركيا وتفاهماتها مع روسيا. ولم تكسب إدارة ترامب شيئًا من الاتفاق الذي جاء محاولة لإنقاذ "ماء الوجه" بعد الانتقادات الشديدة التي تعرّضت لها داخليًا وخارجيًا بسبب تخليها عن الأكراد، والتي تسبّبت بحالة من الفوضى في مواقف إدارة الرئيس ترامب من العملية التركية، وصلت إلى حد تحذير أردوغان في رسالةٍ غير معهودة من أن يكون "متصلبًا" و"أحمق"، ثم مديحه وشكره على توقيع اتفاق مع نائبه بنس.
أما تركيا، فقد خرجت باعتبارها الرابح الأكبر من الاتفاق؛ إذ حصلت على موافقة أميركية بالسيطرة على مساحة واسعة من الأراضي في شمال شرقي سورية، بعمق يتجاوز 30 كيلومترًا لإنشاء المنطقة الآمنة التي تصبو إليها، من دون قتال، وتمكّنت من إبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن حدودها الجنوبية بالعمق نفسه، وتعهدت برفع العقوبات الأميركية التي ترتبت على عملية "نبع السلام". كما حققت روسيا أيضًا مكاسب كبيرة، إذ أفلتت الورقة الكردية من أيدي الأميركيين، وتخلصت روسيا وإيران من الوجود الأميركي في مناطق شرق الفرات، وخرج الأميركيون والأوروبيون من الملف السوري بالكامل، واستفردت به روسيا مع إيران وتركيا (الشركاء الأصغر)، وثبت عقم الاعتماد على الحليف الأميركي. وسوف تحاول روسيا خلال الفترة القادمة السيطرة على مصادر الثروات الطبيعية في مناطق شرق الفرات.
خاتمة
بقدر ما مثل الوجود العسكري الأميركي عاملًا مهمًا في تحديد مصير الصراع في سورية، فإن انسحابه يمثل أيضًا عاملًا مهمًا، فقد يغيّر كل ديناميات الصراع في سورية، بدليل العملية العسكرية التركية والاتفاق الذي نتج منها، والتفاهمات التي تم التوصل إليها بسببها، بين الأكراد وروسيا والنظام السوري من جهة، وبين تركيا وروسيا ومن خلالها النظام من جهة أخرى. ويترك تاليًا تحديد مستقبل الحل السياسي السوري بيد ثلاثي مسار أستانا (روسيا – تركيا - إيران)، بعد أن تم تهميش دور كل الفاعلين الآخرين، العرب والأوروبيين، وأخيرًا الأميركيين الذين فقدوا بخروجهم من سورية أي قدرةٍ على التأثير في مجريات الصراع سواء في الميدان أو على طاولة المفاوضات.