هذه اللعبة في السودان

11 يناير 2019
+ الخط -
لا يوجد أي إبداعٍ في تعاطي النظام السوداني مع انتفاضة ديسمبر التي لا تزال تهز السودان من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. ولم يخرج الجنرال عمر البشير عن النص السلطوي المعروف الذي سبقه إليه كثيرون من أقرانه العرب المستبدين، فمن اتهام المتظاهرين بالعمالة والخيانة، إلى اعتبارهم مجرد أذرع لقوى خارجية، مروراً باتهامات التآمر والتخريب.
على مستوى التكتيكات لجأ الجنرال الذي يزداد قلقه وذعره مع تصاعد وتيرة الحراك الشعبي، إلى حيلة جديدة خلال الأيام الماضية، وهي اللعب على وتر الخلافات الداخلية، وذلك من أجل تعميق الانقسام بين القوى السياسية والمجتمعية على طريقة "فرق... تسد"، فعلى مدار الأسابيع الماضية، عقد البشير عدة مؤتمرات شعبية لمؤيديه ومناصريه، قام فيها بتشويه المعارضين والمتظاهرين، واعتبرهم خطراً على الدولة والنظام. كما أنه أوعز لأحزاب متحالفة معه تحت يافطة "الحوار الوطني" بعقد لقاء للرد على اجتماع "الجبهة الوطنية للتغيير" التي أنشئت قبل أسبوعين، وطالبت برحيل النظام. بل يسعى، في مؤتمراته، إلى تصوير المتظاهرين "أقليةً منحرفةً لا تعبر عن الشعب السوداني الصامد خلف قيادته".
وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن أصدقائه من المستبدين العرب الذين استخدموا، ولا يزالون، ورقة الانقسام المجتمعي، سواء على أسس سياسية أو إيديولوجية أو طائفية أو إثنية، من أجل ضرب الانتفاضات والثورات وضمان عدم خروجهم من السلطة. وهي ورقةٌ تعكس تفكيراً إجرامياً وخياراً تدميرياً لوحدة المجتمع وبقاء الدولة. فعل ذلك معمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وحسني مبارك، وبشار الأسد، وعبد الفتاح السيسي، والآن يجرّب البشير حظه معها. وهو ما يفتح الطريق باتجاه الفرز الهوياتي، والتفكّك المجتمعي، والتنابذ السياسي، حيث ينتقل الخلاف من صراع على السلطة إلى تقسيمٍ للمجتمع بشكل متحزّب على طريقة "من ليس معنا فهو ضدنا" وهو ما يخلق شروخاً وكسوراً مجتمعية يصعب جبرها لاحقاً.
وفي الوقت الذي تتسع فيه رقعة المعارضة السودانية الشعبية، وتنضم إليها قطاعاتٌ جديدة من مهنيين ونقابيين وأحزاب سياسية وحركات اجتماعية وشبابية، فإن موقف الجيش لا يزال غامضاً. حيث لم يصدر أي بيان عن المؤسسة العسكرية، منذ بداية الانتفاضة في 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، سواء دعماً للنظام أو استجابة لمطالب الحراك. وإذا كان عدم نزول الجيش للشارع ومشاركته في قمع المتظاهرين يعد أمراً لافتاً، إلا أنه يمكن يتم تفسيره على أكثر من معنى. فمن جهةٍ، ربما ينتظر الجيش اشتداد الحراك، واتساع رقعته أكثر من ذلك. وبالتالي فشل قوات الشرطة والدرك التصدي له. ومن جهة ثانية، ربما ينتظر جنرالات الجيش أن تصل الأمور إلى مرحلة اللاعودة، من حيث الانفلات الأمني، وتهديد بقاء الدولة نفسها (يستخدم هذا الأمر دوماً لتبرير الانقلابات العسكرية، كما حدث في أفريقيا وأميركا اللاتينية خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وكذلك ما حدث في مصر منتصف عام 2013). ومن جهة ثالثة، ربما يخشى رجال الجيش من رد الفعل الدولي، إذا ما فكر في القيام بانقلاب عسكري لإطاحة البشير. وأخيراً، ربما لا يوجد داخل الجيش من يقوى على مواجهة البشير بعدما قام بعملية تدجين لأغلب القادة العسكريين طيلة العقود الثلاثة الماضية.
ويبدو أن لجوء البشير إلى ورقة التعبئة المضادة للانتفاضة بمثابة آخر الأوراق التي في حوزته التي يستخدمها من أجل وقف الحراك المجتمعي، وذلك بعد أن فشلت ورقة الاستخدام الأمني في وقف الحراك، على الرغم من الخسائر في الأرواح حتى الآن. هي ورقةٌ لن يتوقف ضررها عند إطاحة النظام فحسب، وإنما قد تؤدي إلى حالة احتراب أهلي، لا يرغب أحد في وقوعها.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".