الإسكندرية.. من حال إلى حال

25 سبتمبر 2018
+ الخط -
باهتمام وتقدير لمكانة مدينة الإسكندرية، أعاد إليها محمد علي باشا الحياة، بعد عقود من الإهمال، حتى تحولت من منتصف القرن التاسع عشر إلى واحدةٍ من أهم مدن البحر الأبيض، فقد حولها إلى قاعدة صناعية، بتأسيس الترسانة البحرية لصناعة السفن، وتأسيس صناعاتٍ عديدة، وحولّها إلى مركز تجاري عالمي بتوسعة موانئها وتطويرها، وإنشاء الميناء الغربي وإنشاء أكبر بورصة للقطن، وربطها بالداخل ملاحياً بشق ترعة المحمودية التي أصبحت أيضاً مصدرا لمياه الشرب، ومصدرا لتطوير الظهير الزراعي للمدينة ومكاناً للتنزه.
وبذلك أصبحت المدينة قِبلة للأوروبيين الباحثين عن فرص عمل أو استثمار، وأصبحت كوزموبوليتانية (متعددة الجنسيات)، وانعكس ذلك على المظهر العام للمدينة التي ساهم في تصميم أبنيتها نخبة من أفضل المعماريين العالميين، وأقام بها عدد من أمراء العوائل المالكة، وأبناء الجاليات الأجنبية التي استوطنت الإسكندرية، وكونوا ثروات طائلة من خيراتها برد الجميل والمساهمة في التبرع لبناء مستشفيات ومدارس وحدائق، وغيرها من المنشآت الخيرية.
اشترى الخديوي إسماعيل الأرض المقام عليها حديقة النزهة بمساحة ستين فداناً، وحولها إلى حديقة عامة، وتبرّع الثري اليوناني، أنطوني أنطونيادس عام 1918 بحديقة (أنطونيادس) بمساحة أربعين فداناً، وكانت تحتوي على قصره وعدّة تماثيل وتحف فنية ونباتات وأشجار نادرة .
وأنشأت الجالية اليونانية المستشفى اليوناني الذي تحوّل اسمه فيما بعد إلى مستشفى جمال عبد الناصر، وتبرع التاجر اليهودي، ابراهيم عاداه، بمستشفى الرمد، وقاد الأمير عمر طوسون حملة تبرعات لإنشاء مستشفى المواساة التي افتتحها الملك فاروق عام 1936، وتبرعت الملكة نازلي بمستشفى رعاية الأمومة والطفولة (دار إسماعيل)... وما زالت تلك المستشفيات هي العامود الفقري لتقديم الخدمات الطبية الحكومية للقطاع الأعظم من سكان اسكندرية .
هذا بخلاف مدارس عديدة، منها المدرسة التي تعلّمتُ فيها في المرحلتين، الإعدادية والثانوية، وهي المدرسة الملكية الإيطالية، التي صمّمها المعماري الإيطالي أنريكو بوفيو عام 1912، وتحول اسمها في جيلنا إلى مدرسة رأس التين العسكرية، ثم تحولت لاحقاً إلى مدرسة السادات. وهناك آلاف من المباني العامة والمنشآت الثقافية والقصور والفلل، ففي حي الرمل فقط أثبت إحصاء عام 1923 وجود 3578 فيلا فاخرة .
والآن : أين ترعة المحمودية وحديقة النزهة وأنطونيادس؟ جاري ردم ترعة المحمودية بعد عقود من الإهمال، وتم تجريف أجزاء من حديقة النزهة، وتم إغلاق حديقة أنطونيادس في وجه الجمهور وإقامة وحدة عسكرية داخلها، وجاري الآن الإعلان عن تحويلها إلى غابة جديدة من الإسمنت المسمّى مشاريع سكنية.
أين القصور والمباني والمسارح التي صمّمها كبار المعماريين وكم بقي منها، وكم منها ينتظر طريقه للهدم؟ كم مستشفى حكومي تم إنشاؤه في اسكندرية بعد التي ذكرناها؟ وأين ما أدركناه، نحن مواليد منتصف الستينيات من شوارع نظيفة وساحات مرصوفة بالبازلت الأسود؟ إذا أضفنا إلى ذلك، أنه خلال الأربعين سنة الماضية تمّت كل التوسعات السكنية حول المدينة بطريقة عشوائية دون تخطيط أو التزام بقوانين للبناء وبكتل خرسانية قميئة مخالفة للذوق ولمعايير الأمان.
مع تلك الصورة، من القمة إلى الهاوية، ندرك مدى الجُرم الذي تم ارتكابه في حق واحدة من أجمل مدن العالم وأعرقها، ويبقي السؤال: لماذا هذا الإفساد والتدمير الممنهج؟
هل هو عن جهل وغباء؟ هل عن جشع وطمع؟ هل عن إجرام وفساد؟ هل عن خُطة تخريب متعمد؟ تتعدد الأسباب، والنتيجة واحدة ، فنحن أننا أمام جرائم لا سبيل إلى معالجة آثارها، فليس هناك سبيل لإعادة ما تهدّم وإعمار ما تخرّب.
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر