23 سبتمبر 2024
معارضة المنفى المصرية في خمس سنوات
على مدى خمس سنوات، ظلت أحداث يونيو/ حزيران ـ يوليو/ تموز 2013 في مصر تشكل تحدياً لقدرة المعارضة في المنفى على تقديم أفكار وصيغ سياسية، تمكّنها من تحقيق مطالبها، أو التكيف مع الوضع القائم عبر مراجعات شاملة. وهنا، تبدو أهمية تحليل الاتجاهات العامة لخصائص خطاب المعارضة، ومدى اقترابه من بناء تصور وسياسات متماسكة، تساعد في تحقيق أهدافها أو القبول ببدائل أخرى.
المعارضة بين الثورة والمصالحة
فيما كانت الثورية تهيمن على الموجة الأولى لمعارضي المنفى المصريين، فإنه منذ العام الماضي (2017)، ظهرت اتجاهات تميل إلى الحل السلمي، تحت مسمياتٍ، كالمصالحة وبناء الثقة والعدالة الانتقالية، لكنه على الرغم من استخدام كلمة المصالحة، في بعض حوارات مسؤولي الإخوان المسلمين والمعارضة، فإنها لم تُظهر أفكاراً متماسكة، سواء بقبولها أو رفضها، بشكلٍ يعكس امتلاك لغة سياسية تتسم بالتبعثر، بحيث يصعب الإمساك بطرف خيطٍ يقترب من التلاقي مع الواقع، أو يمهد لبناء موقف سياسي متماسك، فقد ظلت المعارضة حائرةً بين إسقاط الحكومة والثورة عليها وبين المصالحة والحديث عن إجراءات بناء الثقة، كما لو كانت محادثات بين طرفين متكافئين. ولكنه، يمكن القول إن الاتجاه العام للمعارضة يتسم بالتذبذب تجاه بناء تصور للتسوية السياسية، وكان يغلب على خطابها التراجع عن تبني فكرة المصالحة وآلياتها لمصلحة الدوغمائية الثورية. وفي أحسن الأحوال، تستصحب فكرة التفاوض بطريقةٍ لا تراعي الفجوة السياسية المتزايدة منذ 2013، وهو ما يعتبر امتداداً لما شهدته سنة حكم الرئيس السابق، محمد مرسي، حالة من احتدام الصراع بين المؤسسات، بصورةٍ أدت، في النهاية، إلى تعطيل دستور 2012، وسارت الأمور نحو تأسيس مشروعيات أخرى، انتهت بظهور نظام سياسي، كان عاملاً رئيسياً في تضاؤل آمال المعارضة في تغيير الوضع القائم أو التأثير فيه.
وفي سياق لاحق، تجنب "الإخوان" استثمار قبول السلطة بعقد لقاء في سفارة مصر بسويسرا (إبريل/ نيسان 2018)، خطوة لتسهيل قنوات بديلة للحوار، غير أن متحدثا باسم "الإخوان" اعتبرها دون مستوى الخلاف السياسي، وتوقف "الإخوان" عند رفض مستوى التمثيل، على
الرغم من أنه أحد أشكال التواصل الرسمي، والذي يحمل، في طياته، القبول بوجود طرف آخر والاعتراف بوجود مشكلة، وقد يحمل، في طياته، وجود رغبة لدى الحكومة في التلاقي حول تصور ما. يمكن تفسير هذا الموقف باستصحاب خبرة فشل المحادثات اللاحقة لمظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، غير أن عدم الأخذ في الاعتبار الأوضاع السياسية اللاحقة يكشف عن عدم القدرة على التكيف مع التغيرات السياسية.
وباعتبار أن قبول الحكومة بعقد لقاء مع السفير المصري في سويسرا، ممثلا للدولة في الخارج، كان حلا بديلاً لتعذر اللقاء داخل مصر، وبسبب قلق قادة الإخوان المسلمين من الاعتقال، فإنه يوضح نتيجتين: أن تنظيمات "الإخوان" في المنفى صارت مركز العمل السياسي والإعلامي، وأنه بمرور الوقت تتزايد حالة الاغتراب عن التطورات التي تحدث في مصر، وهي تراكمات مصاحبة للإصرار على المعارضة من المنفى، وهو ما يعكس تشتت حركة الإخوان بين الداخل والخارج، وبشكلٍ يفسر الانقسامات التنظيمية، وتدهور الفاعلية السياسية.
المعارضة والرؤية الوطنية
وعلى الرغم من الطابع الداخلي لمحتوى الخلاف السياسي، اتجهت معارضة المنفى نحو التواصل مع الحكومات والبرلمانات الأجنبية، واعتبرته من وسائل الضغط على الحكومة، فخلال السنوات الماضية، اتجه معارضون في المنفى إلى مخاطبة الكونغرس الأميركي، وكان محتوى الحوار أو المطالب يتعلق بتقديم شكاوى ضد الحكومة المصرية، وقد استند بعض مقدمي الشكاوى على أنهم مصريون، إما مزدوجو الجنسية أو شخصيات تحمل جنسية أميركية، كما تكرّرت هذه الشكاوى أيضا، عندما تقدّم المجلس الثوري للحكومة البريطانية بشكوى عن الانتخابات الرئاسية في مصر.
وقد استبشرت المعارضة بقرار لجنة برلمانية بريطانية، يسعى إلى الوقوف على مدى احترام حقوق الرئيس السابق، محمد مرسي، في السجن، لكن موقفها هذا كان يتجاهل أمرين: الأول، أن فكرة اللجنة تقوم على أرضية حقوقية، من شأنها تقويض أساس فكرة "الشرعية". وبهذا المعنى، هي صارت على قناعة بتفكك خطاب مطالب عودة الشرعية، وأن المطالبة بها صارت تتحول نوعا من المزايدة والتعصب. والثاني، أن موقف المعارضة يتسم بانحدار الثقافة السياسية، كما يحمل في طياته مخاطر تعيد إلى الأذهان استدعاء خبرة التاريخ الاستعماري، من خلال إحياء وظائف اللجان البريطانية، وقت الاحتلال، والتي تشكلت لتقرير المستقبل السياسي لمصر للرقابة والتدخل، وهو سلوكٌ يمكن أن ينسحب تأثيره وقيوده على كل الحكومات اللاحقة، ويمكن أن يكون عبئاً على المعارضة، في حال وصولها إلى السلطة.
وتثير هذه التصرفات التساؤل بشأن الآثار المترتبة على التحفيز على التدخل في الشؤون
الوطنية، فهذا النمط يساهم في زيادة نفوذ الحكومات الأجنبية، ويتماثل مع الدعوة إلى إعادة الاستعمار. وهنا، تبدو أهمية مناقشة مدى إدراك المعارضة فكرة الاستقلال والتحرّر، خصوصاً في ظل أن اعتماد قسم من نشاطها على التمويل السياسي، وهي توجهاتٌ يمكن أن تؤدي إلى نتيجتين: الأولى، أنها ترسّخ التبعية، وتربط نشاطها السياسي بدوائر تتعارض مع التطلع للحرية، والثانية، أنها تزيد من فرص التمسك بالبقاء في مربع الصدام، والميل إلى التشدّد الأيديولوجي. فعلى الرغم من تفاقم الأعباء التي يتكبّدها مناصروها، في داخل مصر وخارجها، على مدار السنوات الماضية، وتدهور تأثير المعارضة، ظلت تصريحاتهم العلنية عديمة المرونة، ومنغلقة على أمثولات تجاوزها الواقع المحلي والدولي.
وفي هذا السياق، يمكن تفسير تضاؤل نتائج التواصل مع الحكومات الأجنبية بأنه يعكس التطور الطبيعي لمعارضات المنفى، حيث إنه، مع مرور الوقت، تكون أكثر ميلاً إلى الاستناد لحكومات البلدان المضيفة، وتحت سياستها الخارجية، فعادة ما يتأثر نشاط معارضي المنفى بقيود سياسية وقانونية، تدفعهم نحو التكيف مع قوانين الدولة المضيفة، وفي ظل التغيرات المتسارعة إقليمياً وعالمياً. لكنه، في ما يتعلق بطلب تدخل البرلمان البريطاني، يمثل انحرافاً في أفكار الإخوان المسلمين عن الاستقلال ورفض التبعية، حيث يرسّخ صورة صارت أكثر تسامحاً وقبولاً للتدخل في الشؤون الوطنية. ولذلك، فإن السعي إلى إدخال أطراف أخرى يؤدي إلى تقويض فكرة الحل السياسي أو إضعافها، وزيادة ارتهان المعارضة للتدخل الأجنبي. ولذلك لا يمثل التحيز أو القبول بالتدخل الأجنبي فرصةً ملائمةً للتعامل مع قضايا داخلية، يمكن حلها عبر التفاهم بشأن تسويتها والخروج منها.
وعلى الرغم من أن خطاب المعارضة ظل غير مقنع للغرب، فإنه يحمل، في طياته، تناقضات فكرية وأخلاقية، يكمن معظمها في مسألتين: الأولى، أنه على الرغم من اتهام الغرب برعاية الاستبداد والانقلابات، يتم التعامل معه، في الوقت نفسه، باعتباره نصيرا للحقوق والحريات، فقد يكون مفهوماً التواصل مع أجهزة الأمم المتحدة باعتبارها منظمةً دولية، لكن تواصل المعارضة مع الحكومات الغربية يثير التساؤل بشأن شبكة العلاقات الخارجية، وتأثيرها على الخطاب السياسي. وتتعلق المسألة الثانية بأن المعارضة لم تميز بين الخلاف حول السلطة (والقضايا الداخلية) وتلك القضايا ذات الطابع الوطني، حيث تعاملت مع مفاوضات سد النهضة ضمن قضايا الصراع مع السلطة، على الرغم من انعكاس آثاره على الدولة والمجتمع، وكان من الأوْلى النظر إليه باعتباره مسألة قومية تعزّز موقف الدولة التفاوضي.
المعارضة والشوط الأخير
ارتبطت هامشية إدراك حركة الإخوان وحلفائها الواقع السياسي باعتماد المطالبة بعودة الشرعية على تحالفاتٍ غير متجانسة، وهي العوامل نفسها التي ساهمت في تفكيك سلطتهم السياسية
وتقويضها. واستمرت هذه الحالة حتى وقت قريب، وكانت الملاحظة اللافتة للنظر ماثلةً في غياب القدرة على تطوير أبنية سياسية فعّالة، فمنذ إزاحة الرئيس السابق، محمد مرسي، ساهمت الظواهر الانقسامية لتحالفات "الإخوان" في تلاشي تأثيرهم السياسي، وظهور الخلافات بشأن مسارات خروج المعارضة من أزماتها مع الدولة.
كما أنه خلال الخمس سنوات الماضية، لم تثبت معارضة المنفى جدارتها في تكوين مؤسسات مستقرة، أو استطاعت توفير الحماية الاجتماعية لكل المضارّين والمنضوين تحت مظلتها، فمن جهة اتسم الأداء الإعلامي بالجمع ما بين الاحتجاج والترفيه، ومن جهة أخرى، لم تشكل الجمعيات والكيانات الحقوقية التي نشأت منذ 2014 متغيراً جديداً، بقدر ما هي تعبير عن انقسامات المعارضة. وهنا، يمكن القول إن أداء المعارضة لا يحول فقط دون حدوث تراكمٍ سياسي، يمكن البناء عليه في مرحلة لاحقة، لكنه يعمل على تفكيك مقومات التحول السياسي وإيجاد حالة احتجاجية مبعثرة.
ويمكن القول إن غياب بدائل حاسمة لدى المعارضة يرجع إلى عاملين، فمن ناحية، تبدو عدم قدرة مسؤولي المعارضة على تقديم إجابات للتغيير السياسي مرتبطةً بوصول قسم كبير من المعارضين إلى حالة وظيفية، تميل إلى الاسترخاء والحفاظ على المكتسبات الخاصة. ومن جهة أخرى، أنه على الرغم من الإخفاقات المتتالية تسعى إلى الاستحواذ على الحراك السياسي. وتعدّ هذه البيئة جد مناسبة لرفض إعادة قراءة التغيرات السياسية، بعيدا عن النمط الغيبي، وانتظار الحلول القدرية، من دون المبالاة بالخسائر المتراكمة والاعتداد بالانتصارات المزيفة.
بشكل عام، قدمت أنماط المعارضة المصرية في المنفى نموذجين: الأول، وهو العودة إلى الوطن وتسوية الخلاف مع الحكومة القائمة، وهذا ما يمثل النموذج الشائع في معارضات المنفى. والثاني هو الخضوع لدولة أجنبية، بحيث تتخذها تكئة للغزو والاحتلال. وعلى الرغم من أن هذه الحالات قليلة، لكنها تعد الأكثر خطورةً على تماسك الدولة وهويتها. وفي ظل الأوضاع التي تعيشها المعارضة المصرية، فهي تبدو أقرب إلى تقديم نمط ثالث، يتمثل في الرغبة في الاستقرار في الخارج، هذا ما يمكن استخلاصه من ضعف خطابها وانقساماتها، وتسرّب مطالبها، بحيث لم تعد هناك مهمة محدّدة، تعمل على إنجازها.
ويمكن القول إن مواقف معارضي المنفى صارت تتسم بالتصلب اللاواعي، على أمل انتظار أن يؤدي تفاقم الأزمات الاقتصادية في الدولة إلى تغيير الحكومة، أو قبولها بشروط المعارضة، وكلها عوامل تساهم فيها المعارضة بحملاتٍ دعائية مبعثرة. وترتبط هذه الخصائص بغياب الديمقراطية في الحركات والأحزاب السياسية، وغموض عملية صنع القرار داخلها. ولذلك لم تستطع متابعة التغيرات السياسية والدستورية، أو التأثير فيها، وظلت أسيرة مقولاتٍ تجاوزتها الأحداث، مثل رفض الاعتراف بشرعية النظام الجديد، على الرغم من سياسات إعادة الهيكلة الداخلية، وتطوير علاقاته الخارجية.
وبالتالي، في ظل تراكم الرهانات الخاسرة، تتبدّى ضرورة التجديد السياسي، وإعادة قراءة مسار العملية السياسية بما يحفظ السلام الاجتماعي، ويحول دون الفوضى. ولذلك، يتمثل التحدي في تكوين بدائل فكرية، تنظر إلى السياسة من زاوية تحقيق المصلحة الوطنية معيارا لتقييم الوضع السياسي، وبناء تصورات للخروج من دائرة الصراع، وهذا ما يتطلب نوعاً من التلاقي مع الوضع القائم، من خلال البحث عن توفير الشروط اللازمة لفتح الفرصة أمام الحلول السياسية.
المعارضة بين الثورة والمصالحة
فيما كانت الثورية تهيمن على الموجة الأولى لمعارضي المنفى المصريين، فإنه منذ العام الماضي (2017)، ظهرت اتجاهات تميل إلى الحل السلمي، تحت مسمياتٍ، كالمصالحة وبناء الثقة والعدالة الانتقالية، لكنه على الرغم من استخدام كلمة المصالحة، في بعض حوارات مسؤولي الإخوان المسلمين والمعارضة، فإنها لم تُظهر أفكاراً متماسكة، سواء بقبولها أو رفضها، بشكلٍ يعكس امتلاك لغة سياسية تتسم بالتبعثر، بحيث يصعب الإمساك بطرف خيطٍ يقترب من التلاقي مع الواقع، أو يمهد لبناء موقف سياسي متماسك، فقد ظلت المعارضة حائرةً بين إسقاط الحكومة والثورة عليها وبين المصالحة والحديث عن إجراءات بناء الثقة، كما لو كانت محادثات بين طرفين متكافئين. ولكنه، يمكن القول إن الاتجاه العام للمعارضة يتسم بالتذبذب تجاه بناء تصور للتسوية السياسية، وكان يغلب على خطابها التراجع عن تبني فكرة المصالحة وآلياتها لمصلحة الدوغمائية الثورية. وفي أحسن الأحوال، تستصحب فكرة التفاوض بطريقةٍ لا تراعي الفجوة السياسية المتزايدة منذ 2013، وهو ما يعتبر امتداداً لما شهدته سنة حكم الرئيس السابق، محمد مرسي، حالة من احتدام الصراع بين المؤسسات، بصورةٍ أدت، في النهاية، إلى تعطيل دستور 2012، وسارت الأمور نحو تأسيس مشروعيات أخرى، انتهت بظهور نظام سياسي، كان عاملاً رئيسياً في تضاؤل آمال المعارضة في تغيير الوضع القائم أو التأثير فيه.
وفي سياق لاحق، تجنب "الإخوان" استثمار قبول السلطة بعقد لقاء في سفارة مصر بسويسرا (إبريل/ نيسان 2018)، خطوة لتسهيل قنوات بديلة للحوار، غير أن متحدثا باسم "الإخوان" اعتبرها دون مستوى الخلاف السياسي، وتوقف "الإخوان" عند رفض مستوى التمثيل، على
وباعتبار أن قبول الحكومة بعقد لقاء مع السفير المصري في سويسرا، ممثلا للدولة في الخارج، كان حلا بديلاً لتعذر اللقاء داخل مصر، وبسبب قلق قادة الإخوان المسلمين من الاعتقال، فإنه يوضح نتيجتين: أن تنظيمات "الإخوان" في المنفى صارت مركز العمل السياسي والإعلامي، وأنه بمرور الوقت تتزايد حالة الاغتراب عن التطورات التي تحدث في مصر، وهي تراكمات مصاحبة للإصرار على المعارضة من المنفى، وهو ما يعكس تشتت حركة الإخوان بين الداخل والخارج، وبشكلٍ يفسر الانقسامات التنظيمية، وتدهور الفاعلية السياسية.
المعارضة والرؤية الوطنية
وعلى الرغم من الطابع الداخلي لمحتوى الخلاف السياسي، اتجهت معارضة المنفى نحو التواصل مع الحكومات والبرلمانات الأجنبية، واعتبرته من وسائل الضغط على الحكومة، فخلال السنوات الماضية، اتجه معارضون في المنفى إلى مخاطبة الكونغرس الأميركي، وكان محتوى الحوار أو المطالب يتعلق بتقديم شكاوى ضد الحكومة المصرية، وقد استند بعض مقدمي الشكاوى على أنهم مصريون، إما مزدوجو الجنسية أو شخصيات تحمل جنسية أميركية، كما تكرّرت هذه الشكاوى أيضا، عندما تقدّم المجلس الثوري للحكومة البريطانية بشكوى عن الانتخابات الرئاسية في مصر.
وقد استبشرت المعارضة بقرار لجنة برلمانية بريطانية، يسعى إلى الوقوف على مدى احترام حقوق الرئيس السابق، محمد مرسي، في السجن، لكن موقفها هذا كان يتجاهل أمرين: الأول، أن فكرة اللجنة تقوم على أرضية حقوقية، من شأنها تقويض أساس فكرة "الشرعية". وبهذا المعنى، هي صارت على قناعة بتفكك خطاب مطالب عودة الشرعية، وأن المطالبة بها صارت تتحول نوعا من المزايدة والتعصب. والثاني، أن موقف المعارضة يتسم بانحدار الثقافة السياسية، كما يحمل في طياته مخاطر تعيد إلى الأذهان استدعاء خبرة التاريخ الاستعماري، من خلال إحياء وظائف اللجان البريطانية، وقت الاحتلال، والتي تشكلت لتقرير المستقبل السياسي لمصر للرقابة والتدخل، وهو سلوكٌ يمكن أن ينسحب تأثيره وقيوده على كل الحكومات اللاحقة، ويمكن أن يكون عبئاً على المعارضة، في حال وصولها إلى السلطة.
وتثير هذه التصرفات التساؤل بشأن الآثار المترتبة على التحفيز على التدخل في الشؤون
وفي هذا السياق، يمكن تفسير تضاؤل نتائج التواصل مع الحكومات الأجنبية بأنه يعكس التطور الطبيعي لمعارضات المنفى، حيث إنه، مع مرور الوقت، تكون أكثر ميلاً إلى الاستناد لحكومات البلدان المضيفة، وتحت سياستها الخارجية، فعادة ما يتأثر نشاط معارضي المنفى بقيود سياسية وقانونية، تدفعهم نحو التكيف مع قوانين الدولة المضيفة، وفي ظل التغيرات المتسارعة إقليمياً وعالمياً. لكنه، في ما يتعلق بطلب تدخل البرلمان البريطاني، يمثل انحرافاً في أفكار الإخوان المسلمين عن الاستقلال ورفض التبعية، حيث يرسّخ صورة صارت أكثر تسامحاً وقبولاً للتدخل في الشؤون الوطنية. ولذلك، فإن السعي إلى إدخال أطراف أخرى يؤدي إلى تقويض فكرة الحل السياسي أو إضعافها، وزيادة ارتهان المعارضة للتدخل الأجنبي. ولذلك لا يمثل التحيز أو القبول بالتدخل الأجنبي فرصةً ملائمةً للتعامل مع قضايا داخلية، يمكن حلها عبر التفاهم بشأن تسويتها والخروج منها.
وعلى الرغم من أن خطاب المعارضة ظل غير مقنع للغرب، فإنه يحمل، في طياته، تناقضات فكرية وأخلاقية، يكمن معظمها في مسألتين: الأولى، أنه على الرغم من اتهام الغرب برعاية الاستبداد والانقلابات، يتم التعامل معه، في الوقت نفسه، باعتباره نصيرا للحقوق والحريات، فقد يكون مفهوماً التواصل مع أجهزة الأمم المتحدة باعتبارها منظمةً دولية، لكن تواصل المعارضة مع الحكومات الغربية يثير التساؤل بشأن شبكة العلاقات الخارجية، وتأثيرها على الخطاب السياسي. وتتعلق المسألة الثانية بأن المعارضة لم تميز بين الخلاف حول السلطة (والقضايا الداخلية) وتلك القضايا ذات الطابع الوطني، حيث تعاملت مع مفاوضات سد النهضة ضمن قضايا الصراع مع السلطة، على الرغم من انعكاس آثاره على الدولة والمجتمع، وكان من الأوْلى النظر إليه باعتباره مسألة قومية تعزّز موقف الدولة التفاوضي.
المعارضة والشوط الأخير
ارتبطت هامشية إدراك حركة الإخوان وحلفائها الواقع السياسي باعتماد المطالبة بعودة الشرعية على تحالفاتٍ غير متجانسة، وهي العوامل نفسها التي ساهمت في تفكيك سلطتهم السياسية
كما أنه خلال الخمس سنوات الماضية، لم تثبت معارضة المنفى جدارتها في تكوين مؤسسات مستقرة، أو استطاعت توفير الحماية الاجتماعية لكل المضارّين والمنضوين تحت مظلتها، فمن جهة اتسم الأداء الإعلامي بالجمع ما بين الاحتجاج والترفيه، ومن جهة أخرى، لم تشكل الجمعيات والكيانات الحقوقية التي نشأت منذ 2014 متغيراً جديداً، بقدر ما هي تعبير عن انقسامات المعارضة. وهنا، يمكن القول إن أداء المعارضة لا يحول فقط دون حدوث تراكمٍ سياسي، يمكن البناء عليه في مرحلة لاحقة، لكنه يعمل على تفكيك مقومات التحول السياسي وإيجاد حالة احتجاجية مبعثرة.
ويمكن القول إن غياب بدائل حاسمة لدى المعارضة يرجع إلى عاملين، فمن ناحية، تبدو عدم قدرة مسؤولي المعارضة على تقديم إجابات للتغيير السياسي مرتبطةً بوصول قسم كبير من المعارضين إلى حالة وظيفية، تميل إلى الاسترخاء والحفاظ على المكتسبات الخاصة. ومن جهة أخرى، أنه على الرغم من الإخفاقات المتتالية تسعى إلى الاستحواذ على الحراك السياسي. وتعدّ هذه البيئة جد مناسبة لرفض إعادة قراءة التغيرات السياسية، بعيدا عن النمط الغيبي، وانتظار الحلول القدرية، من دون المبالاة بالخسائر المتراكمة والاعتداد بالانتصارات المزيفة.
بشكل عام، قدمت أنماط المعارضة المصرية في المنفى نموذجين: الأول، وهو العودة إلى الوطن وتسوية الخلاف مع الحكومة القائمة، وهذا ما يمثل النموذج الشائع في معارضات المنفى. والثاني هو الخضوع لدولة أجنبية، بحيث تتخذها تكئة للغزو والاحتلال. وعلى الرغم من أن هذه الحالات قليلة، لكنها تعد الأكثر خطورةً على تماسك الدولة وهويتها. وفي ظل الأوضاع التي تعيشها المعارضة المصرية، فهي تبدو أقرب إلى تقديم نمط ثالث، يتمثل في الرغبة في الاستقرار في الخارج، هذا ما يمكن استخلاصه من ضعف خطابها وانقساماتها، وتسرّب مطالبها، بحيث لم تعد هناك مهمة محدّدة، تعمل على إنجازها.
ويمكن القول إن مواقف معارضي المنفى صارت تتسم بالتصلب اللاواعي، على أمل انتظار أن يؤدي تفاقم الأزمات الاقتصادية في الدولة إلى تغيير الحكومة، أو قبولها بشروط المعارضة، وكلها عوامل تساهم فيها المعارضة بحملاتٍ دعائية مبعثرة. وترتبط هذه الخصائص بغياب الديمقراطية في الحركات والأحزاب السياسية، وغموض عملية صنع القرار داخلها. ولذلك لم تستطع متابعة التغيرات السياسية والدستورية، أو التأثير فيها، وظلت أسيرة مقولاتٍ تجاوزتها الأحداث، مثل رفض الاعتراف بشرعية النظام الجديد، على الرغم من سياسات إعادة الهيكلة الداخلية، وتطوير علاقاته الخارجية.
وبالتالي، في ظل تراكم الرهانات الخاسرة، تتبدّى ضرورة التجديد السياسي، وإعادة قراءة مسار العملية السياسية بما يحفظ السلام الاجتماعي، ويحول دون الفوضى. ولذلك، يتمثل التحدي في تكوين بدائل فكرية، تنظر إلى السياسة من زاوية تحقيق المصلحة الوطنية معيارا لتقييم الوضع السياسي، وبناء تصورات للخروج من دائرة الصراع، وهذا ما يتطلب نوعاً من التلاقي مع الوضع القائم، من خلال البحث عن توفير الشروط اللازمة لفتح الفرصة أمام الحلول السياسية.