نكبة "العربية" بعيون صهيونية

20 يوليو 2018

من "نكبة" قناة العربية.. فيلم إسرائيلي فرنسي صهيوني

+ الخط -
يرقى إلى حد الجريمة ما اقترفته قناة العربية الأسبوع الماضي، عندما بثت وثائقياً بعنوان "النكبة"، تبنّت فيه، بشكل سافر، الرواية الصهيونية، بل تفوقت عليها زوراً وبهتاناً وتزويراً. فيما اقترفته "العربية" محاولة بائسة لتضليل المتلقي العربي، أولاً من خلال تعريب مادة صهيونية بامتياز، ثم التلاعب بعنوان المنتج الصهيوني الأصلي، وعنونته "النكبة".
الوثائقي الذي بثته العربية بعنوان "النكبة" هو في الأصل وثائقي بعنوان "إسرائيل: الأرض الموعودة مرتين"، وأنتجته شركة روتشي، بإخراج الإسرائيلي الفرنسي، ويليام كارل، وزوجته المخرجة بلانش فنغر، وعرض أول مرة في مهرجان السينما الإسرائيلية في باريس في مارس/ آذار الماضي، في ذكرى "تأسيس إسرائيل" السبعين. وللمخرج وزوجته سلسلة وثائقية سابقة عن الهولوكوست.
للحقيقة، ليس في وثائقي "روتشي" أي جديد أو مثير. فيلم دعائي يتبنى كامل الرواية الصهيونية، حيث الفلسطيني مخرّب، قاتل، جاهل؛ وفلسطين صحراء قاحلة، توهجت الحياة فيها مع ولادة دولة إسرائيل؛ وأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم، وأن العرب معادون لليهود.. إلى غير ذلك من خطاب دعائي تروّجه الصهيونية منذ ما قبل النكبة الفلسطينية.
الجديد، والمُستنكر، هو في النسخة "المعرّبة" التي بثتها قناة تزعم أنها عربية، تحت اسم النكبة. وكأن القناة تتعمد بذلك سلب الفلسطيني حتى من كلمة "النكبة" التي تختصر كل ما لحق به من كوارث ومصائب منذ العام 1948. المعلوم أن أدبيات الصراع العربي - الصهيوني عرفت مصطلحين لخصا رواية كل طرفٍ لمجريات التاريخ. بينما روّجت الدعاية الصهيونية مصطلح "الهولوكوست"، تبنّى الفلسطينيون مصطلح "النكبة". تحت عنوان "الهولوكوست"، ظهر اليهودي مضطهدا في أوروبا، باحثاً عن ملجأ آمن هرباً من المحارق والمعتقلات. وتحت هذا العنوان، ابتزت الصهيونية العالم، وبات من واجب هذا العالم تأسيس وطن آمن لليهود في فلسطين، يتكفل العالم "الحر" بتمويله وتسليحه وحمايته.
حرصت الحركة الصهيونية، على جعل تعبير "الهولوكوست" حكراً على معاناة اليهود دون غيرهم، فلم تسمح لأي أقليةٍ أو شعبٍ بالتعبير عن معاناته باستخدام مصطلح "الهولوكوست"، بدعوى أن لا معاناة ترقى إلى ما أصاب اليهود من جرائم النازية والحركات الفاشية الأوروبية. وبات مصطلح "الهولوكوست" يحيل ذهنياً إلى المحرقة اليهودية حصراً، علما أن ملايين من غير اليهود قتلوا وحرقوا خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي الفاشيات العنصرية اليمينية في ألمانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية.
أما مفهوم "النكبة" فقد اختصر ما لحق الشعب الفلسطيني منذ 1948، عندما اجتاحت العصابات الصهيونية، محمية من قوات الانتداب البريطاني، القرى الفلسطينية، وراحت تنكّل بأهلها قتلاً وتشريداً. صار تعبير "النكبة" المعادل اللغوي المُختزل لمعاناة الفلسطيني المطرود من أرضه. ومن دون أن يسعى الفلسطيني الى احتكار المفهوم، ارتبط تعبير النكبة ذهنياً بالفلسطيني ومعاناته. وحتى الأدبيات غير العربية، خصوصا الإنكليزية، أصبحت تميل إلى استخدام كلمة "nakba" للتعبير عما لحق الشعب الفلسطيني من كارثة، جرّاء الاحتلال الإسرائيلي.
وفي متن التاريخ، فرَّ ضحايا من "الهولوكوست" اليهود من أفران الغاز الأوروبية، واحتل بعضهم فلسطين، ورموا الفلسطيني الضحية في أتون نكبةٍ وقودها طوابير من الشهداء والأسرى واللاجئين.
بكل سذاجة واستخفاف، تُنكر "العربية" النكبة الفلسطينية، وتتبنّى الرواية الصهيونية بكل ما فيها من افتراء وتضليل. تُنكر النكبة الفلسطينية، وترى التاريخ والواقع بعيون صهيونية لا عربية، كما تزعم. والمُستنكر أن ما اقترفته "العربية" مرَّ من دون مساءلة من الجهات الممولة للقناة، أو من الدولة التي تستضيف مقرها. ولنا أن نتصور ماذا سيكون الحال، لو أن "العربية" تجرّأت وعرضت فيلماً يُنكر الهولوكوست، أو حتى يُشكك في عدد الضحايا اليهود.
ليست نكبة "العربية" سهواً، ولا جهلاً، بل جريمة مع سابق إصرار وتَرصُد، في سياق حملة تطبيع ممنهجة، تتبارى فيها وسائل إعلام عربية الوجه، عبرية التوجه، لحرف البوصلة عن المواجهة الحقيقية مع المشروع الصهيوني، أس نكبات عربية بدأت في فلسطين، ولن تتوقف هناك، كما يردّد الصهاينة في نشيدهم الوطني "هتكفاه".
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.