24 أكتوبر 2024
أزمة العلاقات التركية – الإسرائيلية.. أسبابها وآفاقها
مقدمة
صعّدت تركيا أخيرا حدة انتقاداتها الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. ودان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ومسؤولون أتراك آخرون بشدة الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. وفي 13 أيار/ مايو 2018، أعلنت تركيا سحب سفيريها من تل أبيب وواشنطن، احتجاجًا على قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة. كما طردت السفير والقنصل الإسرائيليَين من أنقرة وإسطنبول، بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي عشرات الفلسطينيين المحتجين سلميًا على حصار غزة في مسيرات العودة بالقرب من الشريط الحدودي مع قطاع غزة. وردّت إسرائيل بطرد القنصل التركي من القدس الشرقية المحتلة؛ المسؤول عن العلاقات التركية بالفلسطينيين. وإلى جانب الطرد المتبادل، وجّه قادة الدولتين انتقاداتٍ شديدةً، كلٌّ إلى الطرف الآخر، وشنّت وسائل الإعلام في الدولتين حملاتٍ شديدة ضد الدولة الأخرى. وأجرت السلطات التركية في هذه الأجواء فحصًا أمنيًا دقيقًا للسفير الإسرائيلي في مطار إسطنبول أمام عدسات الكاميرا، ما عدّته إسرائيل إهانة لسفيرها.
ودعت تركيا إلى اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي على مستوى القمة في إسطنبول في 18 أيار/ مايو 2018 لبحث الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وسبل مواجهة نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وهو الاجتماع الثاني للمنظمة بهذا الخصوص خلال ستة أشهر.
وقد أدخلت هذه الخطوات وردّات فعل إسرائيل عليها العلاقات التركية - الإسرائيلية إجمالًا في مرحلة جديدةٍ، تحمل احتمال عودة العلاقات السياسية إلى حال أسوأ مما كانت عليه بين الدولتين قبل المصالحة التي جرت عام 2016.
خلفية الأزمة
منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، شهدت العلاقات التركية - الإسرائيلية تراجعًا تدريجيًا، تفاقم بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. ووقع تدهور غير مسبوق في العلاقات، في إثر اعتداء الجيش الإسرائيلي على "أسطول الحرية" المتجه إلى كسر الحصار عن غزة في أيار/ مايو 2010، وقتله تسعة ناشطين أتراك على متنه. وطالبت تركيا إسرائيل بتقديم اعتذار رسمي ودفع تعويضات لعائلات الضحايا وفك الحصار عن قطاع غزة باعتبارها شروطًا لإنهاء الأزمة. لكن رفض إسرائيل مطالب تركيا دفعها إلى طرد السفير الإسرائيلي لديها في أيلول/ سبتمبر 2011، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين إلى مستوى سكرتير ثانٍ، وإلغاء الاتفاقيات العسكرية بين الدولتين، في حين حافظت الدولتان على علاقاتهما الاقتصادية والتجارية.
وازدادت العلاقات سوءًا بعد العدوانين الكبيرين اللذين شنتهما إسرائيل على قطاع غزة في عامَي 2012 و2014. وبعد جهود وساطة قامت بها الولايات المتحدة الأميركية، ودول أخرى، توصلت تركيا وإسرائيل إلى اتفاق مصالحة بينهما في حزيران/ يونيو 2016، بعد أن استجابت إسرائيل لشروط تركيا، وقدّمت اعتذارًا رسميًا لها، ودفعت عشرين مليون دولار تعويضاتٍ لأهالي الضحايا الأتراك، والتزمت بتخفيف الحصار عن قطاع غزة.
بيد أن العلاقات السياسية بين الطرفين ظلت باردة، خلافًا لرغبة إسرائيل. وظلت القضية الفلسطينية عامل تفجير لهذه العلاقات، بسبب استمرار الممارسات الإسرائيلية القمعية ضد الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، واستمرار حصار قطاع غزة وتفاقم الأوضاع الإنسانية فيه، واستمرار إسرائيل في الاستيطان، وفي تهويد القدس الشرقية المحتلة، واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على المسجد الأقصى.
علاقات غير متناظرة
تتصف هذه العلاقات، بحسب معظم الخبراء الإسرائيليين الذين يتابعون موضوع العلاقات
التركية - الإسرائيلية، بمجموعة من الصفات، أبرزها: أولًا، إن العلاقات بين إسرائيل وتركيا ليست متناظرة، بمعنى أن إسرائيل كانت، طوال العقود الماضية، في حاجة إلى هذه العلاقات، لأسباب مختلفة، أكثر من حاجة تركيا إليها. ثانيًا، يعود جذر الخلاف بين الدولتين إلى وصول نخبةٍ جديدةٍ إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002، لها مواقفها ورؤيتها بشأن مكانة تركيا ودورها في المنطقة والعالم، تختلف اختلافًا كبيرًا عن التي كانت موجودة لدى الحكومات التركية السابقة. ثالثًا، إن جملة الإصلاحات الدستورية والقانونية التي جرت في تركيا، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، لا سيما بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تموز/ يوليو 2016، أضعفت كثيرًا نفوذ حليفَي إسرائيل التقليديين في تركيا، وهما المؤسسة العسكرية والبيروقراطية الكمالية، في عملية صنع القرارات؛ فباتت نخبٌ جديدةٌ هي صاحبة القرار وصانع السياسات تمثّلها قيادة الدولة السياسية المنتخبة. رابعًا، تضطلع القضية الفلسطينية ومناصرة الغالبية العظمى من الشعب التركي للشعب الفلسطيني ولحاقه بالحرية والاستقلال، بدور مهم في التأثير في مواقف الأحزاب السياسية التركية من القضية الفلسطينية ومن إسرائيل. فباتت قضية دعم الشعب الفلسطيني من ناحية، ومواجهة سياسات إسرائيل العدوانية من ناحية أخرى، جزءًا من النقاش السياسي العام في تركيا.
إلى جانب ذلك، ظهرت خلال السنوات الماضية تناقضات جدية بين تركيا وإسرائيل بشأن مجموعة من القضايا، منها:
• الدعم المتشعب الذي ما انفكت إسرائيل تقدّمه لحكومة الإقليم الكردي في شمال العراق، والذي شمل أنواعًا مختلفة من الأسلحة، وإرسال الخبراء العسكريين والأمنيين الإسرائيليين لتدريب القوات العسكرية والأمنية الكردية في شمال العراق، والذي ترافق مع تعزيز الوجود العسكري والسياسي لحزب العمال الكردستاني (PKK) في أراضي الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق.
• دعم إسرائيل العلني التطلعات الانفصالية الكردية في العراق وسورية، وهو ما تعارضه تركيا بشدة، وتعدّه مساسًا بأمنها القومي.
• نشاط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الداعم للاعتراف بقيام السلطات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى بارتكاب جريمة إبادة شعب ضد الأرمن، والذي ترافق مع طرح بعض أحزاب المعارضة هذا الموضوع في الكنيست، ما أثار شكوك تركيا بأن إسرائيل تستغل هذه المسألة لابتزازها.
• دعم إسرائيل الموقف القبرصي في ما يخص حقول الغاز التابعة لقبرص، وهو يتناقض مع موقف تركيا الذي يعدّ شمال قبرص التركية له حصة في هذه الحقول.
• مناهضة إسرائيل العلنية أي دولة إقليمية تقوم بدور قيادي، إذ يجب أن يكون المحور الذي تكون إسرائيل رأس حربته هو المحور المقرر في المنطقة.
أين الاقتصاد؟
لم تتأثر العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا وإسرائيل كثيرًا بفعل تدهور علاقاتهما السياسية، لكن هذا لا يعني أن عدم تأثرها سيستمر في المستقبل المنظور، فثمّة دلائل في الفترة الأخيرة على أن العلاقات السياسية السيئة بين الدولتين بدأت تؤثر في علاقاتهما الاقتصادية، وقد تعصف بها.
من الملاحظ أن الميزان التجاري بين الدولتين أخذ يميل، في السنوات الثلاث الأخيرة، إلى مصلحة تركيا، بعد أن كان لمصلحة إسرائيل؛ ففي عام 2014 بلغ الميزان التجاري بين الدولتين 5.5 مليارات دولار، منها 2.7 مليار دولار صادرات تركية إلى إسرائيل، في حين بلغت وارداتها من إسرائيل 2.8 مليار دولار. أما في عام 2015 فبلغ الميزان التجاري بين الدولتين 4.1 مليارات دولار، منها 2.4 مليار دولار صادرات تركية إلى إسرائيل، في حين بلغت واردتها من إسرائيل 1.7 مليار دولار. ويعود سبب انخفاض الواردات التركية من إسرائيل إلى منع السلطات التركية الشركات الإسرائيلية في عام 2015 من المشاركة في المناقصات الحكومية. وفي عام 2016، انخفض الميزان التجاري بين الدولتين إلى 3.9 مليارات دولار، إذ بلغت صادرات تركيا إلى إسرائيل 2.6 مليار دولار، في حين بلغت وارداتها من إسرائيل 1.3 مليار دولار. وفي عام 2017 بلغ الميزان التجاري بين الدولتين 4.3 مليارات دولار، إذ بلغت صادرات تركيا إلى إسرائيل 2.9 مليار دولار، في حين بلغت وارداتها من إسرائيل 1.4 مليار دولار.
ساهمت عدة عوامل في فتح مجالات جديدة للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين، على الرغم من إيقاف تركيا استيراد المنتجات العسكرية الإسرائيلية منذ عام 2010، واستمرار توتر علاقاتهما السياسية؛ فقد أدى فتح باب المنافسة في سوق الطيران في إسرائيل، في السنوات الأخيرة، إلى ارتفاع عدد المسافرين الإسرائيليين إلى تركيا، بعضهم للسياحة فيها، إذ بلغ عدد السياح الإسرائيليين في تركيا في عام 2017 نحو 380 ألف سائح، إضافة إلى مئات الآلاف ممن يستخدمون تركيا محطة "ترانزيت" في الطريق جوًا إلى دول أخرى، بواسطة الخطوط الجوية التركية. ففي عام 2012 غادر من إسرائيل إلى تركيا نحو 4700 رحلة جوية نقلت 686 ألف مسافر. وارتفع عدد الرحلات الجوية بين الدولتين عامًا بعد آخر، ووصل في عام 2017 إلى 12400 رحلة جوية، نقلت فيها الخطوط الجوية التركية نحو مليونَي مسافر.
ومن ناحية أخرى، باتت إسرائيل في السنوات الأخيرة، بسبب الحرب في سورية، وإغلاق الطريق البرية بين تركيا والأردن ودول الخليج، تشكّل ممرًا للبضائع التركية والمنتجات الزراعية إلى الأردن ودول أخرى، إذ تنقل سفن تركية شاحناتٍ تركية مع سائقيها من تركيا إلى ميناء حيفا، ثم تسافر هذه الشاحنات إلى الأردن ودول أخرى لتعود إلى حيفا، ومن ثم إلى تركيا بواسطة السفن، ويشمل هذا النشاط نحو أربعين شاحنة أسبوعيًا. وتضع إسرائيل بنية تحتية لتسهيل النقل من ميناء حيفا إلى جسر الشيخ حسين، تشمل شق الشوارع ومد سكة حديد، ليس لتسهيل مرور الشاحنات التركية فقط، وإنما لجعله ممرًا دوليًا لدول أخرى عديدة إلى الأردن والعراق ودول الخليج، ما يمثّل ضربة قوية لخطوط النقل عبر قناة السويس والموانئ اللبنانية والسورية.
التلويح بالعقوبات
في خضمّ احتدام الصراع السياسي والهجمات السياسية المتبادلة بينهما، تطرّق الطرفان إلى إمكانية المبادرة إلى خطوات لتقليص العلاقات التجارية، فقد صرح الرئيس أردوغان أنه سيجري تقييم العلاقات التجارية والاقتصادية بإسرائيل، واتخاذ خطوات بخصوصها بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في 24 حزيران/ يونيو 2018. أما في إسرائيل، فقد أعلن وزير الزراعة، أوري أريئيل، في 15 أيار/ مايو 2018، من على منصة الكنيست، أنه أصدر تعليماته إلى وزارة الزراعة بوقف الاستيراد من تركيا إلى أن تتضح الأمور، وأعرب عن أمله أن يحذو حذوه وزراء آخرون.
إلى جانب ذلك، بحث الكنيست الإسرائيلي في 23 أيار/ مايو 2018 مسألة الاعتراف بـ "مذابح الأرمن" في الإمبراطورية العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، وقرّر أن تقوم الهيئة العامة للكنيست بالمناقشة والتصويت على "الاعتراف بمذابح الأرمن باعتبارها إبادة شعب"، في وقت لاحق لم يتم تحديده بعد. وكانت إسرائيل تتجنب ذلك في الماضي، ليس حفاظًا على العلاقة بتركيا فقط، بل لعدم رغبتها أيضًا في التفريط في "فرادة الهولوكوست" بالاعتراف بإباداتٍ أخرى. وخلافًا لجميع الحالات السابقة، قرّر الائتلاف الحكومي منح أعضائه حرية التصويت، ولم تتدخل وزارة الخارجية هذه المرة، ولم تطلب من أعضاء الكنيست عدم معالجة الموضوع، كما درجت في الماضي، بدواعي الحرص على العلاقات الإسرائيلية – التركية.
خاتمة
تتجه العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى مزيد من التوتر والعداء، فقضايا خلاف عديدة ما زالت قائمة، مثل حصار قطاع غزة واستمرار الاستيطان والاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، إلى جانب دعم إسرائيل الأكراد في شمال العراق وسورية، وربما في تركيا أيضًا. أضف إلى ذلك خلاف الدولتين بشأن قضايا إقليمية عديدة، مثل الوضع في سورية والملف النووي الإيراني وانحياز إسرائيل إلى قبرص في ما يخص حقول الغاز في البحر المتوسط.
ويبدو أن إسرائيل أصبحت أكثر قربًا إلى التخلي عن الطبيعة غير المتناظرة لعلاقاتها بتركيا، إذا لم تكن قد تخلّت فعلًا عنها، وأصبحت في السنة الأخيرة (2017) تتبنّى سياسة المواجهة معها، وتضغط في الولايات المتحدة، من أجل سياسة أميركية مشابهة لسياستها. ويبدو أن ما شجّعها على ذلك إقامتها علاقات قوية مع دول عديدة في المنطقة، مثل مصر والسعودية واليونان وقبرص، وجدت في بعضها حليفًا ضد تركيا بدرجات متفاوتة، لكن تركيا تملك، في المقابل، أوراق قوة عديدة في مواجهة إسرائيل لم تُستخدم بعد؛ منها تخفيض علاقاتها الاقتصادية والتجارية بها، ومنع المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الفلسطينية المحتلة من دخول أراضيها، ومنع إسرائيل من استعمال مجالها الجوي، ووقف السماح لإسرائيل باستيراد البترول من أذربيجان عن طريق الموانئ التركية. ويعني تبنّي هذه الإجراءات دخول العلاقات بين البلدين مسار تدهورٍ يصعب الرجوع عنه.
صعّدت تركيا أخيرا حدة انتقاداتها الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. ودان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ومسؤولون أتراك آخرون بشدة الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. وفي 13 أيار/ مايو 2018، أعلنت تركيا سحب سفيريها من تل أبيب وواشنطن، احتجاجًا على قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة. كما طردت السفير والقنصل الإسرائيليَين من أنقرة وإسطنبول، بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي عشرات الفلسطينيين المحتجين سلميًا على حصار غزة في مسيرات العودة بالقرب من الشريط الحدودي مع قطاع غزة. وردّت إسرائيل بطرد القنصل التركي من القدس الشرقية المحتلة؛ المسؤول عن العلاقات التركية بالفلسطينيين. وإلى جانب الطرد المتبادل، وجّه قادة الدولتين انتقاداتٍ شديدةً، كلٌّ إلى الطرف الآخر، وشنّت وسائل الإعلام في الدولتين حملاتٍ شديدة ضد الدولة الأخرى. وأجرت السلطات التركية في هذه الأجواء فحصًا أمنيًا دقيقًا للسفير الإسرائيلي في مطار إسطنبول أمام عدسات الكاميرا، ما عدّته إسرائيل إهانة لسفيرها.
ودعت تركيا إلى اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي على مستوى القمة في إسطنبول في 18 أيار/ مايو 2018 لبحث الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وسبل مواجهة نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وهو الاجتماع الثاني للمنظمة بهذا الخصوص خلال ستة أشهر.
وقد أدخلت هذه الخطوات وردّات فعل إسرائيل عليها العلاقات التركية - الإسرائيلية إجمالًا في مرحلة جديدةٍ، تحمل احتمال عودة العلاقات السياسية إلى حال أسوأ مما كانت عليه بين الدولتين قبل المصالحة التي جرت عام 2016.
خلفية الأزمة
منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، شهدت العلاقات التركية - الإسرائيلية تراجعًا تدريجيًا، تفاقم بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. ووقع تدهور غير مسبوق في العلاقات، في إثر اعتداء الجيش الإسرائيلي على "أسطول الحرية" المتجه إلى كسر الحصار عن غزة في أيار/ مايو 2010، وقتله تسعة ناشطين أتراك على متنه. وطالبت تركيا إسرائيل بتقديم اعتذار رسمي ودفع تعويضات لعائلات الضحايا وفك الحصار عن قطاع غزة باعتبارها شروطًا لإنهاء الأزمة. لكن رفض إسرائيل مطالب تركيا دفعها إلى طرد السفير الإسرائيلي لديها في أيلول/ سبتمبر 2011، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين إلى مستوى سكرتير ثانٍ، وإلغاء الاتفاقيات العسكرية بين الدولتين، في حين حافظت الدولتان على علاقاتهما الاقتصادية والتجارية.
وازدادت العلاقات سوءًا بعد العدوانين الكبيرين اللذين شنتهما إسرائيل على قطاع غزة في عامَي 2012 و2014. وبعد جهود وساطة قامت بها الولايات المتحدة الأميركية، ودول أخرى، توصلت تركيا وإسرائيل إلى اتفاق مصالحة بينهما في حزيران/ يونيو 2016، بعد أن استجابت إسرائيل لشروط تركيا، وقدّمت اعتذارًا رسميًا لها، ودفعت عشرين مليون دولار تعويضاتٍ لأهالي الضحايا الأتراك، والتزمت بتخفيف الحصار عن قطاع غزة.
بيد أن العلاقات السياسية بين الطرفين ظلت باردة، خلافًا لرغبة إسرائيل. وظلت القضية الفلسطينية عامل تفجير لهذه العلاقات، بسبب استمرار الممارسات الإسرائيلية القمعية ضد الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، واستمرار حصار قطاع غزة وتفاقم الأوضاع الإنسانية فيه، واستمرار إسرائيل في الاستيطان، وفي تهويد القدس الشرقية المحتلة، واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على المسجد الأقصى.
علاقات غير متناظرة
تتصف هذه العلاقات، بحسب معظم الخبراء الإسرائيليين الذين يتابعون موضوع العلاقات
إلى جانب ذلك، ظهرت خلال السنوات الماضية تناقضات جدية بين تركيا وإسرائيل بشأن مجموعة من القضايا، منها:
• الدعم المتشعب الذي ما انفكت إسرائيل تقدّمه لحكومة الإقليم الكردي في شمال العراق، والذي شمل أنواعًا مختلفة من الأسلحة، وإرسال الخبراء العسكريين والأمنيين الإسرائيليين لتدريب القوات العسكرية والأمنية الكردية في شمال العراق، والذي ترافق مع تعزيز الوجود العسكري والسياسي لحزب العمال الكردستاني (PKK) في أراضي الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق.
• دعم إسرائيل العلني التطلعات الانفصالية الكردية في العراق وسورية، وهو ما تعارضه تركيا بشدة، وتعدّه مساسًا بأمنها القومي.
• نشاط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الداعم للاعتراف بقيام السلطات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى بارتكاب جريمة إبادة شعب ضد الأرمن، والذي ترافق مع طرح بعض أحزاب المعارضة هذا الموضوع في الكنيست، ما أثار شكوك تركيا بأن إسرائيل تستغل هذه المسألة لابتزازها.
• دعم إسرائيل الموقف القبرصي في ما يخص حقول الغاز التابعة لقبرص، وهو يتناقض مع موقف تركيا الذي يعدّ شمال قبرص التركية له حصة في هذه الحقول.
• مناهضة إسرائيل العلنية أي دولة إقليمية تقوم بدور قيادي، إذ يجب أن يكون المحور الذي تكون إسرائيل رأس حربته هو المحور المقرر في المنطقة.
أين الاقتصاد؟
لم تتأثر العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا وإسرائيل كثيرًا بفعل تدهور علاقاتهما السياسية، لكن هذا لا يعني أن عدم تأثرها سيستمر في المستقبل المنظور، فثمّة دلائل في الفترة الأخيرة على أن العلاقات السياسية السيئة بين الدولتين بدأت تؤثر في علاقاتهما الاقتصادية، وقد تعصف بها.
من الملاحظ أن الميزان التجاري بين الدولتين أخذ يميل، في السنوات الثلاث الأخيرة، إلى مصلحة تركيا، بعد أن كان لمصلحة إسرائيل؛ ففي عام 2014 بلغ الميزان التجاري بين الدولتين 5.5 مليارات دولار، منها 2.7 مليار دولار صادرات تركية إلى إسرائيل، في حين بلغت وارداتها من إسرائيل 2.8 مليار دولار. أما في عام 2015 فبلغ الميزان التجاري بين الدولتين 4.1 مليارات دولار، منها 2.4 مليار دولار صادرات تركية إلى إسرائيل، في حين بلغت واردتها من إسرائيل 1.7 مليار دولار. ويعود سبب انخفاض الواردات التركية من إسرائيل إلى منع السلطات التركية الشركات الإسرائيلية في عام 2015 من المشاركة في المناقصات الحكومية. وفي عام 2016، انخفض الميزان التجاري بين الدولتين إلى 3.9 مليارات دولار، إذ بلغت صادرات تركيا إلى إسرائيل 2.6 مليار دولار، في حين بلغت وارداتها من إسرائيل 1.3 مليار دولار. وفي عام 2017 بلغ الميزان التجاري بين الدولتين 4.3 مليارات دولار، إذ بلغت صادرات تركيا إلى إسرائيل 2.9 مليار دولار، في حين بلغت وارداتها من إسرائيل 1.4 مليار دولار.
ساهمت عدة عوامل في فتح مجالات جديدة للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين، على الرغم من إيقاف تركيا استيراد المنتجات العسكرية الإسرائيلية منذ عام 2010، واستمرار توتر علاقاتهما السياسية؛ فقد أدى فتح باب المنافسة في سوق الطيران في إسرائيل، في السنوات الأخيرة، إلى ارتفاع عدد المسافرين الإسرائيليين إلى تركيا، بعضهم للسياحة فيها، إذ بلغ عدد السياح الإسرائيليين في تركيا في عام 2017 نحو 380 ألف سائح، إضافة إلى مئات الآلاف ممن يستخدمون تركيا محطة "ترانزيت" في الطريق جوًا إلى دول أخرى، بواسطة الخطوط الجوية التركية. ففي عام 2012 غادر من إسرائيل إلى تركيا نحو 4700 رحلة جوية نقلت 686 ألف مسافر. وارتفع عدد الرحلات الجوية بين الدولتين عامًا بعد آخر، ووصل في عام 2017 إلى 12400 رحلة جوية، نقلت فيها الخطوط الجوية التركية نحو مليونَي مسافر.
ومن ناحية أخرى، باتت إسرائيل في السنوات الأخيرة، بسبب الحرب في سورية، وإغلاق الطريق البرية بين تركيا والأردن ودول الخليج، تشكّل ممرًا للبضائع التركية والمنتجات الزراعية إلى الأردن ودول أخرى، إذ تنقل سفن تركية شاحناتٍ تركية مع سائقيها من تركيا إلى ميناء حيفا، ثم تسافر هذه الشاحنات إلى الأردن ودول أخرى لتعود إلى حيفا، ومن ثم إلى تركيا بواسطة السفن، ويشمل هذا النشاط نحو أربعين شاحنة أسبوعيًا. وتضع إسرائيل بنية تحتية لتسهيل النقل من ميناء حيفا إلى جسر الشيخ حسين، تشمل شق الشوارع ومد سكة حديد، ليس لتسهيل مرور الشاحنات التركية فقط، وإنما لجعله ممرًا دوليًا لدول أخرى عديدة إلى الأردن والعراق ودول الخليج، ما يمثّل ضربة قوية لخطوط النقل عبر قناة السويس والموانئ اللبنانية والسورية.
التلويح بالعقوبات
في خضمّ احتدام الصراع السياسي والهجمات السياسية المتبادلة بينهما، تطرّق الطرفان إلى إمكانية المبادرة إلى خطوات لتقليص العلاقات التجارية، فقد صرح الرئيس أردوغان أنه سيجري تقييم العلاقات التجارية والاقتصادية بإسرائيل، واتخاذ خطوات بخصوصها بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في 24 حزيران/ يونيو 2018. أما في إسرائيل، فقد أعلن وزير الزراعة، أوري أريئيل، في 15 أيار/ مايو 2018، من على منصة الكنيست، أنه أصدر تعليماته إلى وزارة الزراعة بوقف الاستيراد من تركيا إلى أن تتضح الأمور، وأعرب عن أمله أن يحذو حذوه وزراء آخرون.
إلى جانب ذلك، بحث الكنيست الإسرائيلي في 23 أيار/ مايو 2018 مسألة الاعتراف بـ "مذابح الأرمن" في الإمبراطورية العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، وقرّر أن تقوم الهيئة العامة للكنيست بالمناقشة والتصويت على "الاعتراف بمذابح الأرمن باعتبارها إبادة شعب"، في وقت لاحق لم يتم تحديده بعد. وكانت إسرائيل تتجنب ذلك في الماضي، ليس حفاظًا على العلاقة بتركيا فقط، بل لعدم رغبتها أيضًا في التفريط في "فرادة الهولوكوست" بالاعتراف بإباداتٍ أخرى. وخلافًا لجميع الحالات السابقة، قرّر الائتلاف الحكومي منح أعضائه حرية التصويت، ولم تتدخل وزارة الخارجية هذه المرة، ولم تطلب من أعضاء الكنيست عدم معالجة الموضوع، كما درجت في الماضي، بدواعي الحرص على العلاقات الإسرائيلية – التركية.
خاتمة
تتجه العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى مزيد من التوتر والعداء، فقضايا خلاف عديدة ما زالت قائمة، مثل حصار قطاع غزة واستمرار الاستيطان والاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، إلى جانب دعم إسرائيل الأكراد في شمال العراق وسورية، وربما في تركيا أيضًا. أضف إلى ذلك خلاف الدولتين بشأن قضايا إقليمية عديدة، مثل الوضع في سورية والملف النووي الإيراني وانحياز إسرائيل إلى قبرص في ما يخص حقول الغاز في البحر المتوسط.
ويبدو أن إسرائيل أصبحت أكثر قربًا إلى التخلي عن الطبيعة غير المتناظرة لعلاقاتها بتركيا، إذا لم تكن قد تخلّت فعلًا عنها، وأصبحت في السنة الأخيرة (2017) تتبنّى سياسة المواجهة معها، وتضغط في الولايات المتحدة، من أجل سياسة أميركية مشابهة لسياستها. ويبدو أن ما شجّعها على ذلك إقامتها علاقات قوية مع دول عديدة في المنطقة، مثل مصر والسعودية واليونان وقبرص، وجدت في بعضها حليفًا ضد تركيا بدرجات متفاوتة، لكن تركيا تملك، في المقابل، أوراق قوة عديدة في مواجهة إسرائيل لم تُستخدم بعد؛ منها تخفيض علاقاتها الاقتصادية والتجارية بها، ومنع المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الفلسطينية المحتلة من دخول أراضيها، ومنع إسرائيل من استعمال مجالها الجوي، ووقف السماح لإسرائيل باستيراد البترول من أذربيجان عن طريق الموانئ التركية. ويعني تبنّي هذه الإجراءات دخول العلاقات بين البلدين مسار تدهورٍ يصعب الرجوع عنه.