لا تستهن بمن انقطع عنهم الأمل

26 ابريل 2018
+ الخط -
حينما يغلق الأفق تماما، ولا تظهر إلا المشانق والإعدامات والمصادرات وصور المنتحرين، سواء بالحوت الأزرق أو الأخضر أو القوات الخاصة، فاعرف أن الأمل قد تم حصاره من أجل أن يعلو صوت الدكتاتور على شعبه، من خلال فوهة البنادق، لا من خلال شفافية الصناديق.
أتكلم عن الأمل حينما يغلق شبابيكه، وعن الأحزاب حينما تتحول إلى دكاكين لبيع النشوق. أتكلم عن الهواء، حينما لا يصير هواءً، وعن أرواح الناس، حينما يتم مسخها في دولاب الإعلام. لا أتكلم عن السياسة، لأنه لم تعد هناك من سياسة على الأرض، ولا حتى في عوامة منيرة المهدية. أتكلم عن الناس التي تراها فجأةً في محطات الأتوبيسات شاردةً، حينما توجعها المظالم، وعن الصمت الذي يحاول أن يصرخ لولا الخوف، وعن مشروع الصارخ الخائف، حينما يكلم مَن بجواره في الأتوبيس، وكأنه يكلم همّاً له قديما صار متمكنا منه تماما، واستبدل الكلمات بالهمهمة اليائسة شبه المراقبة.
لا أتكلم عن ثورة، ولكن أتكلم عن أنين، أتكلم عن مقتٍ مكبوت. لا أتكلم عن ميدان تحرير أو غيره، لأن أغلب الميادين تحولت إلى جثثٍ صامتة ترفرف فوقها الأعلام. حتى الوطن نفسه، قد تحول إلى ما يشبه الملجأ الأخير الذي يكرّهونك فيه بشتى الطرق.
لا أتكلم بالطبع عن وطن لميس جابر ولميس الحديدي وأحمد موسى وعزمي مجاهد، فهؤلاء أوطانهم بعيدة، وفي حراسة الأمن والكاميرات والخادمات والسيارات شبه المصفحة. أنا أتكلم عن وطن أصحاب الهموم المخنوقة في الأسواق الفقيرة. لا أتكلم عن وطن محمد أبو العينين، ولا وطن سكان الساحل الشمالي وشرم الشيخ وخلافه... فهؤلاء أوطانهم محفوظة ومؤمّنة، ومصونة مع مدخراتهم، ورموش نسائهم الصناعية. أنا أتكلم عن الشاب الذي يمشي بائسا فوق كوبري قصر النيل، وتناوشه الرغبات المكبوتة بالانتحار، ورأيت أمه بالفعل تتابعه بأسى وأمومة حانية، وهي تقول له: "انزل ما تقعدش كده على الحرف الشيطان شاطر يا ابني"، وهو في شروده، ولا يرد، حتى نزل ومشى بجوارها طيّعا.
لا أتكلم عن وطن "المحامي الدولي"، ولا وطن المطربة أمال ماهر حينما يضربها تركي آل الشيخ الذي يفتتح النوادي، ويصير رئيسا شرفيا لها بالأمر المباشر من فلوسه، ويغلق النوادي أيضا بفلوسه، ويشتري اللاعبين أيضا بالأمر المباشر، ونحن نتسلّى بالصفقات إعلاميا، كي يسيل لعابنا، ونحوّل أولادنا إلى مجانين كرة قدم، أو ما شابه ذلك.
لا أتكلم عن وطن محمود الخطيب، أو وطن مرتضى منصور، أو أزمات نادي الزمالك، لأن الخزينة ستتم إعادتها ثانية إلى مرتضى بعد تمثيلية مرحة، وستمتلئ ثانية بفلوس تركي آل الشيخ، بعدما يضرب أمال ماهر للمرة السادسة أو العاشرة، بحضور محاميها الدولي.
لا أتكلم عن وطن هؤلاء، ولا عن ورود محمود الخطيب التي تنتظره بالمطار بالأطنان. أتكلم عن العذاب الذي أراه في العيون حائرا، واقترب من أن يكون مرضا أو بدايات مرضٍ أو حتى يأسا قد يدمر الأخضر واليابس.
نعم، هناك ممالك تلاشت بغباء حكامها أو حتى عدم خبرتهم، لكن حالتنا مختلفة، فالرجل يدّعي المعرفة بكل شيء، ومَن في يدهم المعرفة ادّعوا أمامه الجهل بها، كي يضحّوا به، من دون أن يعرفوا أنهم قد ضحوا بالوطن. وطن يمشي بقوة المكيدة وحدها، وينتظر حلا من السماء.
دلالات