زعيم في "البِكم"

15 ابريل 2018
+ الخط -
استغرب الجميع من المرسوم الذي أصدره الرئيس بمصادرة سيارات "البِكم"، ومنع استيرادها ألبتة تحت طائلة الإعدام، خصوصًا أصحاب المواشي الذين يعتبرون "البِكم" رفيق حياتهم الذي لا غنى عنه، لنقل أغنامهم ونسائهم من مرعى إلى آخر، غير أنهم اضطروا للخضوع للمرسوم القاهر، كعادتهم دائمًا.
أما الزعيم فكانت له أسبابه "القاهرة" أيضًا، فقد تفاقمت كآبته، منذ رأى جثة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح يحملها في "بِكم" "رعاعٌ" لم يقيموا وزنًا لهيبته، ولم يحترموا "تاريخه الرئاسي"، فلم يعد الزعيم يذوق طعمًا للنوم أو الراحة منذ تلك الحادثة؛ لأنه بات يرى، في كوابيسه التي لم تعد تفارقه، أنه هو تلك الجثة المزدراة التي تعبث بها الأيدي وتتلاعب بهيبتها، وتسخر منها كاميرات الهواتف المحمولة، (وهنا قرّر أيضًا، مصادرة هذا الطراز من الهواتف، ومنع استيراده).
والواقع، أن فكرة "الموت المبجّل" سيطرت تمامًا على ذهن الرئيس، فقد بات هاجسه الأول والأخير أن يضمن لجثته، بعد موته، وقارًا وتقديسًا يضاهيان ما حظي بهما في حياته، فقد كان على قناعةٍ تامةٍ بأن الفرق الطبقي القائم بينه وبين الشعب ينبغي أن يظل قائمًا إلى ما بعد الموت؛ إذ كيف يتساوى الزعيم والمواطن في الموت؟ ذلك محالٌ، ويتناقض مع كل "الحتميات" التاريخية.. المفروض أن يكون لكل منهما موته الخاص.. لا ضير أن يموت المواطن تحت عجلات قلابٍ، أو في حفرة امتصاصية، أو برصاصة طائشة، لأن المواطن، في عرفه، "طائش" وحمولة فائضة عن الحاجة، أما الزعيم "النجم" فلا ينبغي أن يموت إلا كـ"نجم" (هذا على فرض أنه سيموت أصلًا.. لأن الخلود فكرة قابلة للتطبيق على الزعماء العرب)، وأن يكون محاطًا بمظاهر الأبّهة والتقديس.. والشعب المكلوم يحيط بقصره. في الموت فقط كان الزعيم مؤمنًا بـ"التعدّدية"، أما في السلطة فلا تعددية. ولا بأس أن تكون هناك تعدّدية قُطرية في الوطن العربي، أما "الوحدة" المنشودة فينبغي أن يكون هو زعيمها، وإلا فلتذهب الوحدة إلى الجحيم. هذا ما كان يدور في ذهن الزعيم، وهو يعاود النظر إلى "بِكم" الفضيحة.
وإمعانًا منه في الحذر، راح ينبش كتب التاريخ، للوقوف على "مصارع الزعماء" الذين سبقوه إلى القبور، ليتلافى مصائرهم المأساوية.. قرأ عن الأمراء العباسيين، كيف كانوا ينبشون قبور بني أمية، ويخرجون العظام منها، لجلدها وحرقها إمعانًا في الانتقام والإذلال، فقرّر أن يبني قصرًا خاصّا لضريحه قبل موته، ويخصّص لحراسته كتيبة دبابات وسرب طائرات، وأن يحصنه تحصين القلاع، حتى لا يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منه،؛ إذ لا يجوز لأحدٍ أن يعبث بضريحه الملكي.
غير أن هاجس "تبجيل جثته" لم يفارقه، خصوصًا وهو يقرأ عن "مصارع زعماء" معاصرين، على غرار عبد الكريم قاسم ونوري السعيد في العراق، وكيف تم تمزيق جثة الثاني وسحله في شوارع بغداد، إبّان الانقلاب العسكري، فقرّر أن يطمر الشوارع، ويمنع إنشاء شوارع جديدة، وليعد المواطنون إلى عصر الدواب، لا ضير، المهم أن لا يعبث أحد بجثته.
حدث ذلك كله وأزيد، من دون أن يحاول الزعيم، ولو مرة واحدة في "مماته"، أن يحقّق معادلة التبجيل المزدوج لشخصه حيًّا، وجثته ميتًا، بأن يتبادل التبجيل والاحترام مع شعبه، وأن يمنحه حرياته وحقوقه.
ولأن الهاجس تفاقم في جمجمة الزعيم من عقدة "البِكم" التي استحوذت عليه، فقد واتاه الحل السحري، وسخر من نفسه، لأنه لم يفكر به قبل الآن، فقد تذكّر ما فعله الشعب الإسباني يوم أحاط بقصر زعيمه الديكتاتور فرانكو، إبّان احتضاره ليودعه، وحين قيل لفرانكو "إن الشعب جاء ليودعك.. تساءل: لماذا؟.. أين سيسافر الشعب؟".. نعم، فالزعيم لا يسافر عن عرشه حتى لو مات.. أما الموت، فينبغي أن يكون على سريرٍ وثير يشبه العرش، وباقات الزهور والشموع من حوله، والحاشية كلها حاضرةٌ بنياشينها وأوسمتها، وعلى الأرض أن تتوقف عن الدوران مع توقف أنفاسه..
اتخذ الزعيم القرار: "الحل الوحيد أن يموت الشعب كله قبل موته".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.