جهة الشعر.. جهتنا

08 مارس 2018
+ الخط -
فوجئت، ومجموعة كبيرة من أصدقاء الشاعر قاسم حداد، قبل أيام، برسالة قصيرة أرسلها إلينا عبر "واتساب"، ينعى فيها موقعه الإلكتروني الشهير "جهة الشعر": "الأصدقاء الأعزاء.. سوف يتوقف موقع جهة الشعر عن البث، لأسباب تتعلق بعدم توافر الدعم المادي.. ونود هنا أن نتوجه بالشكر لكل من وفّر الدعم المادي له على مدى العشرين عاما السابقة، والاعتذار لأصدقاء جهة الشعر الذين بمشاركتهم النشر في الموقع أسهموا فعلا في الإنجاز الذي تحقق طوال سنوات عمل الموقع منذ انطلاقته عام 1996".
أعادتني الرسالة المحبطة إلى شهادتي في "جهة الشعر" التي كتبتها بمناسبة مرور عشرة أعوام على إنشاء الجهة، باعتبارها حدثاً غير مسبوق في فضاء الإنترنت العربي يومها. وقلت فيها إنه لا يمكن أن تتجه البوصلة نحو جهة الشعر، من دون أن يكون قاسم حداد هو الهدف الأول، والعنوان الأخير، وربما من دون أن يكون البوصلة أيضا. فليست لهذه الجهة جهة واحدة تركن إليها، ولا اتجاه بعينه يكون الطريق نحوها. إنها الجهات الأربع كلها، وبعدها جهات أخرى غير مكتشفة، وما زال الشعراء يبحثون عن مفاتيحها السرية في آبارهم الأولى.
عشر سنوات، والحلم الذي بدأ متحققا في فضاء المستحيل يكبر في فضاء الشعر الجميل، وهو يمارس لعبة الإغواء، باعتبارها اللعبة التي اخترعها الشعراء أصلا، في خيلاء القافية، وزهو البيان، وخفّة الموسيقى وبهجتها المعلنة، ليشاغب أهل الكلام فيما يملكون وما لا يملكون، فيوجز لهم المسافات، ويختصر لهم ما تبقى من زمنٍ في قصائدهم الجديدة، مقترحا عليهم أزمانا مستقبلية لا بد أنها ستأتي، فيما هم يذهبون إلى حيث لا يذهب الشعر بالضرورة.
جهة الشعر، إذن، هي جهة القلب، وهي جهة الشاعر، أعني جهة قاسم التي اتخذها بديلا عن قبره المقترح في أقاليم الكون وأقانيم الكلام، فأصبحت هذه الجهة، بكل من حاول أن يلج بوابتها المفتوحة على الكون، في احتمالاته الأجمل شعرا ونثرا وكلاما وتشكيلا وألوانا وحياة إضافية، كافية لاستمرار البهجة في ضواحي القول، جهة مستمرة في رحلة الخلق الشعري، عبر الاستعانة بآخر الاقتراحات البشرية، لكي تكون الحياة  أكثر سهولةً وبساطةً واخضرارا وجمالا وكمالا، ولتكون السماء أكثر قربا، والبحر أكثر اتساعا، والأرض أرحب صدرا، وربما ليكون الشعراء أوسع رؤيةً، وأكثر تماسّا مع الكون ومفرداته التي لا يراها الآخرون إلا عبر القول الشعري، ومفازاته السرية بالضرورة.
ولعل قلةً من الشعراء، ومن تبعهم من الغاوين، يتذكّرون بداية هذه الجهة في فضاء الإنترنت، قبل أكثر من عشر سنوات، بوصفها من ألعاب التكنولوجيا الحديثة، حيث لم ينظر أكثر من حاولت أن تلفت نظرهم إلى لمستها الحانية في صيغتها الأولى، حيث أطراف الأصابع تناوش أطراف الأصابع في بحر من اللون الأزرق بدرجاته المتموّجة، إلا باعتبارها لعبة ملونة من الألعاب التي يزدهر بها عالم التكنولوجيا، بكل إرباكاتها لذاكرتنا المحتشدة بالشفهي والمدوّن من القول، والتي لا تصلح إلا كي يتسلى أطفال الشعر وطلبة المدارس بالتنقل بين وصلاتها في لحظات النزق وساعات الدرس الأخيرة.
لكن الجهة كانت في بدايتها المجرّدة أكثر من هذا كله، وأوسع من الحلم المستكين في الذاكرات المتعبة. ففي سنوات قليلة جدا، كان الإنترنت يقدم نفسه فيها عنوانا للكائن البشري في آخر تحولاته التكنولوجية، وصارت هذه ملاذا للقصيدة العربية ووطنا لأصحابها من دون التزاماتٍ مسبقة، ولا شروط مسبقة غير شرط الإبداع المتحقق، مكتشفا أو غير مكتشف، وحرّرت كل من صار من أهلها، من كثيرٍ من تبعات النشر الورقي.
وما زال للشهادة بقية قبل المشاركة في النعي الجماعي لجهتنا التي لا نريدها أن تموت.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.