وداعاً "جهة الشعر"

12 مارس 2018

اللعب، الساخر، مع الكلمات وجه آخر لقاسم حداد

+ الخط -
كنا ذات يوم، صبحي حديدي وأنا، في ضيافة صديقنا قاسم حداد في المنامة، فدعاني قاسم إلى مطعم كبابٍ شعبيٍّ يعرف صاحبه. بدت العلاقة بين الاثنين أكثر من مجرد زبون وصاحب مطعم. جاء الأخير، وجلس معنا بعدما أعدَّ طعامنا. إنه من هذا النوع الذي يغري المثقفين. كادح، على قدر من الاطلاع، ذو تجربةٍ حياتيةٍ لا يعرفها معظم الذين "يمتطون" (ملاحظة: هذا الوصف مقصود!) القلم. نحب هذا النوع من الحياة في الكتب فقط. ألم يُغرم بطل رواية نيكوس كازانتزاكي، المثقف، بـ "زوربا" الملاح غير التائه، وابن الحياة من شحمة أذنها حتى أخمص قدمها؟ فعل. بل صار أشبه بـ "معلم" له في شؤون الحياة. لم يكن صاحب المطعم "شخصيةً روائية". ليس "نموذجياً". إنه رجل حياة يوميةٍ لا تتساءل عما أتساءل عنه الآن، ولا تحفل به. كان شخصاً داكن اللون. أظن أن اسمه: أحمد السنيّ. لست متأكداً، فإن لم يكن هو أحمد السنيِّ، فهو، على الأقل، روى لنا حكاية أحمد السنيِّ التي صارت لازمة الحضور، كلما التقيت قاسم حداد.
ذهب أحمد السنيِّ إلى إيران، أيام الشاه، فلاحظ رجل الحدود غرابة اسمه. وبعنصريةٍ تليق بنا، نحن أبناء الشرق، قال له: هَمْ سياه، وهَمْ سنيِّ؟ وسياه تعني بالفارسية: الأسود. ضحكنا ليلتها كما لم نضحك من قبل. ضحكنا حتى كدنا نقع على ظهورنا. ولكن ليس قبل أن يترجم لنا الرجل قولة الشرطي الإيراني إلى ما يلي: أسود.. وفوق ذلك سنيّ؟ يا لهذا "الشؤم" المضاعف: ألا يكفي أنك أسود، وسنيّ أيضاً؟!
اللعب، الساخر، مع الكلمات وجه آخر لقاسم حداد. لكن وجهه الأول سيبقى، دائماً، لعبه، بل طرْقه الماهر، كحدّاد أصيل، على الكلمات، حتى يطلع منها ما تخبئه في أحشائها من مستعصي المعاني. شاعرٌ مغامرٌ بكل معنى الكلمة. لا يمشي الدروب السهلة، المستقيمة. يخلط ما يبدو غير قابلٍ للخلط، فتلمع هذه العجينة الجديدة كسبيكة ذهب. هذه الكلمات ليست في تقريظ شعرية قاسم حداد. فهي تفيض عن ركنٍ في صحيفة. إنها تحية لأول مغامرةٍ رقميةٍ ثقافيةٍ عربيةٍ وضعت الشعر في صلب اهتمامها، من دون أن تغفل ما تدور حوله من حقول كتابيةٍ وفنيةٍ، لا يستوي الشعر من دونها، أعني: "جهة الشعر"، الموقع الثقافي العربي، بل متعدّد اللغات، الشامل، ذو اللون الأزرق الذي كاد يكون علامة دالة عليه. هذه ريادةٌ لقاسم حداد، وإدراكٌ، مبكِّر، بقدوم العصف الرقمي الذي سيطيح آلة العالم القديم، ليرسي عالماً جديداً لم نكن نتوقع أن يبلغ ما بلغه الآن. كنا، كلنا، ننشر في صحفٍ ورقية. هذه التسمية، بحد ذاتها، موجعة، ومثيرة للغرابة: صحف ورقية؟! هل كان هناك غير الصحف الورقية؟ هل كان هناك وسيط للقراءة غير الورق؟ وللكتابة: غير القلم؟ أهذه أشياءُ من الماضي البعيد؟ أهذه أحاديث معنعنة؟ كلا. هذه ثلاثة أرباع حياة من هم في عمري، وها نحن نرويها كما لو أنها حياة أسلافٍ بعيدين.
جاء موقع "جهة الشعر" ليقدّم لنا أكثر من "خدمة". أهم هذه "الخدمات" الجليلة أنك تنشر، أو تعيد نشر ما كتبت في الصحف الورقية، على موقعٍ يخترق حجب الرقابة العربية، يتجاوز الحدود وأختام وزارات السيادة العربية التي لا تعمل إلا في المنع والحجب والإقصاء. صار بوسعك أن تقرأ ليس في اليوم ذاته، بل في اللحظة ذاتها، نصاً من المغرب، يجاوره نص من المشرق، أن تعرف ما حجبه الرقيب، أن تتواصل مع نصوص وكتابات مثقفين عرب شتتهم الأنظمة، وكاد المنفى يبتلعهم. هذه فضيلة "جهة الشعر"، قبل أن تصبح الصحف نفسها رقميةً، وقبل أن "تطوّر" الأنظمة العربية آليات حجب جديدة "تواكب" العصر. هذا بالضبط ما نبرع به: مواكبة العصر بالمنع والرقابة والتعطيل. تضيق الأرض العربية بصحيفة، أو بموقع ثقافي، بكلمةٍ خارج السرب المنصاع، وتتسع لطائرات التايفون، والأواكس، والرافال، والإف 16 التي نقصف بها بعضنا بعضاً. أي همالةٍ تاريخية هذه؟ تتوقف الصحف أو تحجب، تضمحل البؤر التي تشعُّ جمالاً، ويتعملق القبح ويشمخ. "جهة الشعر" أدّت دورها، حتى لو توقف نبضُها الأزرق. شكراً قاسم حداد.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن