27 سبتمبر 2018
سورية.. خطاب النظام والخطاب العام عن الثورة
لم يكن الخطاب الذي بثه إعلام النظام السوري، وكرّره تابعوه من الممانعين، عشوائياً. فقد ظهر أنه كان مدروساً جداً، وأن خطوطه العامة صيغت قبيل اندلاع الثورة التي توقعها النظام أكثر من توقع معارضيه، بعد أن انفجرت موجة الثورة من تونس، امتداداً لمصر، ثم البحرين واليمن وليبيا. وكانت الحادثة التي وقعت في 17 /2 /2011 مؤشراً مهماً في هذا السياق. حيث وضع النظام، بمعاونة "حلفائه"، الخطوط الأساسية لكيفية مواجهة ثورةٍ ستقع. وكان من بين هذه الخطوط ما يتعلق بالخطاب الإعلامي، وبالدفع نحو العنف والأسلمة، واختراق بيئة الثورة. وضمن ذلك، جاء إطلاق سراح المحكومين بجرائم كبيرة، وأيضاً "الجهاديين" الذين كان يعتقلهم.
وفي أهم المفاصل التي كان يركز عليها خطاب النظام، كان بشار الأسد يصرّح بما يعاكس هذه الخطوط ويكشف زيفها. ليس عن قصد طبعاً، حيث لا يمكن تصوّر أنه يريد تفكيك الخطاب العام لنظامه. لكنه في الواقع كان يفكك خطاب النظام، على الرغم من أن ذلك لم يؤثر كثيراً في الفئات التي تقبل الخطاب العام، بالضبط لأنها كانت تتابع القنوات الإعلامية التي تكرّر هذا الخطاب. وفي العادة، تتجاهل نقل ما ينافي مضمونها، حتى وإنْ جاء من الرئيس الذي يجري الدفاع المستميت عنه، فهذه القنوات عادة ما تتجاهلها تصريحات الرئيس ما يتنافى مع مضمونها. لهذا يظل التماسك الغوغائي هو السائد. فقد قام الخطاب الإعلامي على ركيزتين: بقاء تردّد المتردّدين في بداية الثورة. وإعطاء مبرّرات للداعمين، لكي يستمروا في دعمهم. وأفضل ما يفيد ذلك هو وصم الثورة بأنها مؤامرة إمبريالية، واعتبار أن ما يجري هو فعل مجموعات سلفية وإخوانية تمارس الإرهاب. في الأولى، كان الخطاب الأميركي يساعد النظام في "تأكيد" أن ما يجري مؤامرة، حيث كانت تتقصد أميركا ذلك لتشويه الثورة. وفي الثانية، اشتغل النظام وداعموه، و"أصدقاء الشعب السوري" (الدول التي ادعت أنها تدعم الشعب ضد النظام) على تشكيل مجموعات إرهابية "جهادية"، وهي جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسمح بنشوء مجموعات سلفية، مثل أحرار الشام وجيش الإسلام، ومجموعات صغيرة أخرى. وبهذا كان يتطابق خطابه مع ما يجري في الواقع.
إذن، وإضافة إلى "المؤامرة"، ركز خطاب النظام على إظهار وجود مجموعات سلفية إخوانية، وعلى استخدام المتظاهرين السلاح، ووجود قناصة تقتل عناصر الشرطة، وعن وجود أشخاصٍ
يتغلغلون في المظاهرات، ويطلقون النار على الشرطة، وعزو قتلى الجيش والمتظاهرين إلى هؤلاء الأشخاص. طبعاً فيما بعد باتت هناك مجموعات سلفية إخوانية، واستخدام سلاح بشكل واسع، ولن يُفهم ذلك إلا بتفكيك خطاب النظام نفسه الذي كان يؤكد على الدور السعودي القطري والأميركي والأوروبي والتركي في استثارة التظاهرات، وتسليح الكتائب العسكرية، والإرهاب. هذا ما سيقوم به بشار الأسد نفسه، حيث كان في تصريحات مسجلة عديدة يقول ما يعاكس ذلك كله، ويكشف زيف الخطاب العام الذي يكرّره إعلام النظام وتردده قوى الممانعة.
ثلاثة تصريحات
في هذا السياق، يمكن التطرق إلى ثلاث تصريحات أساسية قالها بشار الأسد في السنوات الماضية، تكشف أن كل ما كان يردده الخطاب العام مزوّر، وأنه محدَّد مسبقاً لأغراضٍ تخدم سياسة النظام في حشد قطاع شعبي حوله، وحشد قوى دولية لدعمه. في الأولى، لم ينجح كثيراً، ويمكن القول إنه لاقى بعض النجاح، لكنه نجح في الثانية بشكل لافت، حيث وقف معظم اليسار العالمي خلفه، أما الدول التي دعمته علناً، أو ساعدته بأشكال مختلفة، فقد كانت الأمور واضحة لها، ولعب بعضها لتأكيد الخطاب العام هذا.
التصريح الأول: وهو خطاب في مجلس الشعب في افتتاح البرلمان الجديد يوم 3 /6 /2012، موجود على "يوتيوب"، حيث قال إنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين، وكانت هناك مطالب محقة طرحها المتظاهرون. كان ذلك يتنافى مع الخطاب العام الذي ركّز على استخدام السلاح، ووجود المجموعات السلفية الإخوانية منذ الشهر الأول للثورة. وحينها، كانت هذه المسألة مفصلا مركزيا في الخطاب العام بهدف تخويف الأقليات، ودفع "العلويين" لدعم النظام، الذي كان يخشى من انجرافهم في الثورة. لهذا، أُخرج بعد يومين على قناة الدنيا ليقول أنه فُهم خطأ، على الرغم من أن الجملة في غاية الوضوح. وقد كرَّر ذلك بعد ستة أشهر، وفي صحيفة داعمة للنظام (الأخبار اللبنانية)، النائب الأول للرئيس، فاروق الشرع، الذي قال إنه "في الأشهر الأولى كنا نبحث عن مسلح واحد فلا نجد، أما الآن فقد امتلأت البلد بالسلاح".
يعني ذلك أن ما كان يحدث ثورة، وأن كل ما قيل في الخطاب العام تزوير، وله هدف تشويهها وتخويف جزء من الشعب السوري، لكي لا ينخرط فيها. ويعني أن القتلى الذين سقطوا من المتظاهرين، أو قوات النظام، سقطوا برصاص من قوات النظام، حيث لعب القناصة المدربون دوراً مهماً في البدء، وهو قتل من الجيش كل من رفض تنفيذ أوامر قتل المتظاهرين. لكنه يعني كذلك أن ما حدث من أسلمةٍ، ومن وجود مجموعات "جهادية"، يجب أن يُفسَّر على ضوء ذلك. بمعنى أن الخطاب العام هذا كان يحتاج "إثباتا"، وهذا ما اشتغل عليه النظام منذ البدء، وساعدته في ذلك دول كانت تقول إنها ضده (هذا ما ستشير إليه السطور التالية) ولم يكن "نتاجا طبيعيا"، أو يمكن أن نعزوه إلى الثورة. بالتالي، لا بد من دراسة كيف حدث الميل إلى الأسلمة؟ وكيف أصبحت المجموعات "الجهادية" القوة الأكبر؟ هذا يفترض التدقيق والتمحيص في أدوار النظام وإيران، لكن أيضاً السعودية وتركيا وقطر، وكذلك أميركا وروسيا.
روّج النظام ما أسماها "خطة بندر" التي تتحدث عن مسار تحوّل الثورة إلى مجموعات "جهادية"، والخطة هي خطة النظام نفسه، لكن الموافق عليها من الأمير السعودي بندر بن سلطان. وما من شك في أن دور بعض أطراف المعارضة، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين التي أرادت أسلمة الثورة منذ البدء، ومن ثم إعلان دمشق، والمجلس الوطني السوري، كانت تصبّ فيما أراد النظام من أسلمة، ومن تسلُّح.
وبالتالي، في الأشهر الستة الأولى، كما يقول بشار الأسد (وأقول السنة الأولى من الثورة)،
كانت قطاعات من الشعب تتظاهر لتحصيل بعض مطالبها، وكانت السلمية الشكل الوحيد (وفي الستة أشهر التالية باتت السلمية الشكل الأساسي مع دخول السلاح تدريجياً، قبل أن تتحوّل إلى السلاح نهاية سنة 2012). لهذا كان النظام يكذب، ويكرّر كذبه، وهو يعمل على الأرض لدفع الشعب إلى حمل السلاح، وإلى تعميم الأسلمة، وتمكين "الجهاديين". فالثورة لا تُطفأ إلا بذلك، كما توصّل بعد ما حدث في تونس ومصر، ومن ثم اليمن وليبيا. ولا شك في أن التدخل الأطلسي في ليبيا يعزّز من الخطاب العام الذي يشير إلى أن ما يجري هو مؤامرة، خصوصاً أن بعض أطراف المعارضة (الإخوان، والمجلس الوطني السوري الذي كان تحت قبضتهم) كانت تكرّر طلب التدخل الأميركي، وكانت تسعى إلى تكرار ما حدث في ليبيا.
التصريح الثاني، يخص السعودية، حيث كان الخطاب العام يركز على دورها (ودول الخليج) في "المؤامرة على سورية". وكانت السعودية تظهر من ضمن دول "أصدقاء الشعب السوري"، على الرغم من أن دورها وتصريحاتها إلى نهاية سنة 2012 كانت قليلة في ما يخص ما يجري في سورية، ولم تظهر إلا عبر دفع شيخ وهابي إلى الظهور بمظهر القائد للثورة، والمحرِّك لها، عبر اقتراح أشكال نشاطٍ كانت تبدو ذات فائدة للمتظاهرين. لكن النظام كان، ومنذ ما قبل الثورة، يحرِّض الفئات العلوية على متابعة قناة صفا التي يديرها، وهي (مع قناة وصال التي يديرها الشخص نفسه) أُنشئت للتحريض ضد الشيعة والعلويين، وكان يعمم الفتاوى التي تتعرّض لهما. وربما كان هذا أهم مفصل في الأشهر الأولى في تردّد انخراط العلويين، وفئات شعبية كثيرة أخرى، في الثورة. بالضبط نتيجة كل الفتاوى التي جرى تعميمها ضد العلويين والشيعة، ولأن هذا الشخص باتت تُحمل صوره في المظاهرات، وتتردد الشعارات المؤيدة له.
لكن تصريح بشار الأسد (لصحيفة أميركية) يظهر عكس ما كان يكرّره الخطاب العام، فقد قال إن الملك عبدالله بن عبد العزيز أرسل ابنه خالد مع بداية الثورة، وطلب "أن يسحق الثورة ويسحق الإخوان". وأكمل أن السعودية دفعت للنظام ستة مليارات ونصف مليار دولار. بمعنى أن السعودية، منذ اليوم الأول، كانت مع النظام، لأنها كانت تريد سحق الثورة التي بدأت من تونس، وامتدت بسرعة لافتة، إلى مصر والبحرين واليمن وليبيا، لتصل إلى سورية، وتطبق الطوق حولها. لهذا كانت معنية بـ "سحق الثورة"، خشية أن تنتصر في سورية فتصل إليها، وكان ذلك حتمياً، نتيجة الوضع الصعب الذي يعيشه جزء مهم من الشعب السعودي. لكن دورها لم يكن مفيداً، فيما إذا دعمت النظام علناً. لهذا أكملت دور النظام من خلال وقوفها في التحالف الذي سمي "أصدقاء الشعب السوري". وفي هذا المجال، قدمت خدمات كبيرة للنظام، أولها دور قناة صفا وشيخها، وثانيها تعميم خطاب الأسلمة، وربط دعم الكتائب المسلحة، بعد أن نشأت، بذلك. وشلّ نشاط كتائب مسلحة عديدة، بإخضاعها لسياستها، ومن ذلك جيش الإسلام. وكذلك مدّ جبهة النصرة، ثم "داعش"، بالمال والسلاح والرجال، وذلك كله بالتنسيق مع النظام. بمعنى أنها كانت تنفّذ على الأرض ما كرّره خطاب النظام بالتنسيق مع النظام نفسه.
نحو سنتين والسعودية تدعم النظام، وإنْ كانت تظهر أنها في موقع آخر، فقد كان يهمها أن يقف هذا المدّ الثوري، وأن يتكسّر على أبواب دمشق. ولا شك في أن التدخل الإيراني المباشر، بعد أن ضعُف النظام وكان يتهاوى بينما باتت إيران هي التي تتحكم بالسلطة، هو الذي جعل السعودية تقف ضد النظام، بعد ذلك كله، لسحق الثورة وضمان استمراره. لكن أهمية تصريح بشار الأسد أنه يكشف الدور السعودي، ويُظهر أن السعودية كانت في صفّ الممانعة. وهي الآن مع السياسة الروسية في سورية، ومع إخراج إيران منها. وبالتالي، أوضح تصريح بشار الأسد بالتالي أين كانت تقف السعودية، والدور الذي لعبته. وهذا يهدم جزءاً مهماً من معزوفة المؤامرة، حيث كان يقال إن السعودية أداة أميركا في تنفيذ المؤامرة ضد سورية، فيما يقول بشار الأسد إن السعودية ساعدت في دعم النظام، وفي تشويه الثورة وفق ما خطط. ووقفت معه في سحق الثورة.
تصريح ثالث: ارتبطت المؤامرة بما جرى اختراعه من صراع بشأن "خط الغاز". ولهذا أسميت "مؤامرة الغاز"، وجوهرها أن قطر وتركيا أرادتا مدّ خط أنابيب غاز من قطر إلى تركيا عبر سورية، وأن النظام رفض ذلك ارتباطاً بـ "علاقاته الحسنة" مع روسيا، لأن ذلك كان سيضرّ مصالح روسيا. وعلى الرغم من أن علاقة النظام مع تركيا وقطر كانت أفضل كثيراً من علاقته مع روسيا، حيث شكلوا معاً محور الممانعة، وحيث كانت علاقة النظام مع روسيا باهتة، وهو ما أشار إليه بوتين مرة، حين قال إن الأسد زار دولا أوروبية مراراً، ولم يزر روسيا سوى مرة. وبالتالي، كان من الطبيعي أن يوافق الأسد على هذا الطلب الذي سيفيد النظام بما يتحصّل عليه من أجور مرور الخط من الأراضي السورية. على الرغم من ذلك، أوضح بشار الأسد، بعد خمس سنوات من الثورة، أن هذا الخط الموهوم لم يعرض عليه، فقد أجاب عن سؤال لصحيفة إيطالية تعلق بأن هذا الخط هو سبب "المؤامرة"، بنعم، لكنه أكمل أن خط الغاز الممتد من الشمال إلى الجنوب لم يُعرض عليه، بل عُرض عليه خط من الشرق إلى الغرب، ووافق عليه.
بالتالي، لم يكن هناك مشروع لمدّ خط غاز بين قطر وتركيا. ولهذا لم تكن هناك مؤامرة، لأنه رفض ما لم يُعرض عليه. على العكس، وافق على الخط الممتد من الشرق إلى الغرب، أي الخط الإيراني القطري المشترك الممتد من حقول النفط والغاز المشتركة بين البلدين في الخليج العربي عبر العراق إلى سورية. أي أن قطر كانت مشاركة في هذا الخط، ولم تكن في حاجة إلى مؤامرة. وأيضاً كانت إيران قد اتفقت مع تركيا لمدّ خط أنابيب نفط وغاز عبر أراضيها، بهدف تصديره إلى أوروبا. وذلك كله من دون حساب الموقف الروسي الذي لم يكن في الحسبان حينها، والذي كان سيتأثر من هذين الخطين بالتأكيد. وكذلك كانت أميركا ضدهما، لأنهما سيهمان في فك الحصار المفروض على إيران ونفطها.
إذن، لم تكن هناك مؤامرة، ومواقف كل من قطر وتركيا من النظام اللذين كانا في صداقةٍ معه، نتجت عن سبب آخر، هو رفض النظام الإصلاح وزيادة العنف التي أخذ في ممارستها في
وضعٍ كان ينمي الاعتقاد بأن أميركا سوف تستغلّ ذلك لتغيير النظام. وجعل هذا الأمر تركيا، بعد ستة أشهر من المحاولة لتحقيق إصلاح يوقف الثورة، تنقلب لكي ترتب بديلها، خشية أن تفرض أميركا بديلاً آخر، ينهي كل ما حققته من مصالح وامتيازات في سورية. بالتالي، لم يكن الأمر يتعلق بالنظام، بل بالخوف من بديلٍ، يمكن أن يسلب تركيا مصالحها، وهذا ما جعل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يصرّح إن أي تدخل في سورية يجب أن يعتمد على الجيش التركي، وسعى إلى أن يفرض المجلس الوطني السوري المسيطر عليه من جماعة الإخوان المسلمين، أدواته، هو البديل الوحيد، فقد كان يقاتل من أجل الحفاظ على المصالح التي تحصّل عليها من بشار الأسد، وكانت كبيرة إلى حدّ أنها أضرت الاقتصاد السوري، وأكملت انهياره.
ربما جاء تدخل روسيا لكي تمنع خطوط النفط والغاز التي تهدد مصالحها. وحصلت على أكثر من ذلك كثيراً. ويشكل ذلك كله في الخطاب العام الذي التزم به إعلام النظام، وحفظه عن ظهر قلب كل الممانعين والداعمين للنظام، الذي أوصل إلى إظهار الصراع أنه بين النظام "الوطني والعلماني"، و"الإرهاب الجهادي الدولي" المتمثل بـ "داعش" وجبهة النصرة. حيث بات الأمر يتعلق بالاختيار بين النظام أو داعش والنصرة. بينما كان الأمر يتعلق بصناعة العدو، أي تحويل الصراع من شعبٍ ضد نظامٍ إلى صراع نظام ضد الإرهاب. هذا هو جوهر خطة بندر بن سلطان التي اشتغل النظام وحلفاؤه العلنيون والسريون على تحقيقها.
وفي أهم المفاصل التي كان يركز عليها خطاب النظام، كان بشار الأسد يصرّح بما يعاكس هذه الخطوط ويكشف زيفها. ليس عن قصد طبعاً، حيث لا يمكن تصوّر أنه يريد تفكيك الخطاب العام لنظامه. لكنه في الواقع كان يفكك خطاب النظام، على الرغم من أن ذلك لم يؤثر كثيراً في الفئات التي تقبل الخطاب العام، بالضبط لأنها كانت تتابع القنوات الإعلامية التي تكرّر هذا الخطاب. وفي العادة، تتجاهل نقل ما ينافي مضمونها، حتى وإنْ جاء من الرئيس الذي يجري الدفاع المستميت عنه، فهذه القنوات عادة ما تتجاهلها تصريحات الرئيس ما يتنافى مع مضمونها. لهذا يظل التماسك الغوغائي هو السائد. فقد قام الخطاب الإعلامي على ركيزتين: بقاء تردّد المتردّدين في بداية الثورة. وإعطاء مبرّرات للداعمين، لكي يستمروا في دعمهم. وأفضل ما يفيد ذلك هو وصم الثورة بأنها مؤامرة إمبريالية، واعتبار أن ما يجري هو فعل مجموعات سلفية وإخوانية تمارس الإرهاب. في الأولى، كان الخطاب الأميركي يساعد النظام في "تأكيد" أن ما يجري مؤامرة، حيث كانت تتقصد أميركا ذلك لتشويه الثورة. وفي الثانية، اشتغل النظام وداعموه، و"أصدقاء الشعب السوري" (الدول التي ادعت أنها تدعم الشعب ضد النظام) على تشكيل مجموعات إرهابية "جهادية"، وهي جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسمح بنشوء مجموعات سلفية، مثل أحرار الشام وجيش الإسلام، ومجموعات صغيرة أخرى. وبهذا كان يتطابق خطابه مع ما يجري في الواقع.
إذن، وإضافة إلى "المؤامرة"، ركز خطاب النظام على إظهار وجود مجموعات سلفية إخوانية، وعلى استخدام المتظاهرين السلاح، ووجود قناصة تقتل عناصر الشرطة، وعن وجود أشخاصٍ
ثلاثة تصريحات
في هذا السياق، يمكن التطرق إلى ثلاث تصريحات أساسية قالها بشار الأسد في السنوات الماضية، تكشف أن كل ما كان يردده الخطاب العام مزوّر، وأنه محدَّد مسبقاً لأغراضٍ تخدم سياسة النظام في حشد قطاع شعبي حوله، وحشد قوى دولية لدعمه. في الأولى، لم ينجح كثيراً، ويمكن القول إنه لاقى بعض النجاح، لكنه نجح في الثانية بشكل لافت، حيث وقف معظم اليسار العالمي خلفه، أما الدول التي دعمته علناً، أو ساعدته بأشكال مختلفة، فقد كانت الأمور واضحة لها، ولعب بعضها لتأكيد الخطاب العام هذا.
التصريح الأول: وهو خطاب في مجلس الشعب في افتتاح البرلمان الجديد يوم 3 /6 /2012، موجود على "يوتيوب"، حيث قال إنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين، وكانت هناك مطالب محقة طرحها المتظاهرون. كان ذلك يتنافى مع الخطاب العام الذي ركّز على استخدام السلاح، ووجود المجموعات السلفية الإخوانية منذ الشهر الأول للثورة. وحينها، كانت هذه المسألة مفصلا مركزيا في الخطاب العام بهدف تخويف الأقليات، ودفع "العلويين" لدعم النظام، الذي كان يخشى من انجرافهم في الثورة. لهذا، أُخرج بعد يومين على قناة الدنيا ليقول أنه فُهم خطأ، على الرغم من أن الجملة في غاية الوضوح. وقد كرَّر ذلك بعد ستة أشهر، وفي صحيفة داعمة للنظام (الأخبار اللبنانية)، النائب الأول للرئيس، فاروق الشرع، الذي قال إنه "في الأشهر الأولى كنا نبحث عن مسلح واحد فلا نجد، أما الآن فقد امتلأت البلد بالسلاح".
يعني ذلك أن ما كان يحدث ثورة، وأن كل ما قيل في الخطاب العام تزوير، وله هدف تشويهها وتخويف جزء من الشعب السوري، لكي لا ينخرط فيها. ويعني أن القتلى الذين سقطوا من المتظاهرين، أو قوات النظام، سقطوا برصاص من قوات النظام، حيث لعب القناصة المدربون دوراً مهماً في البدء، وهو قتل من الجيش كل من رفض تنفيذ أوامر قتل المتظاهرين. لكنه يعني كذلك أن ما حدث من أسلمةٍ، ومن وجود مجموعات "جهادية"، يجب أن يُفسَّر على ضوء ذلك. بمعنى أن الخطاب العام هذا كان يحتاج "إثباتا"، وهذا ما اشتغل عليه النظام منذ البدء، وساعدته في ذلك دول كانت تقول إنها ضده (هذا ما ستشير إليه السطور التالية) ولم يكن "نتاجا طبيعيا"، أو يمكن أن نعزوه إلى الثورة. بالتالي، لا بد من دراسة كيف حدث الميل إلى الأسلمة؟ وكيف أصبحت المجموعات "الجهادية" القوة الأكبر؟ هذا يفترض التدقيق والتمحيص في أدوار النظام وإيران، لكن أيضاً السعودية وتركيا وقطر، وكذلك أميركا وروسيا.
روّج النظام ما أسماها "خطة بندر" التي تتحدث عن مسار تحوّل الثورة إلى مجموعات "جهادية"، والخطة هي خطة النظام نفسه، لكن الموافق عليها من الأمير السعودي بندر بن سلطان. وما من شك في أن دور بعض أطراف المعارضة، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين التي أرادت أسلمة الثورة منذ البدء، ومن ثم إعلان دمشق، والمجلس الوطني السوري، كانت تصبّ فيما أراد النظام من أسلمة، ومن تسلُّح.
وبالتالي، في الأشهر الستة الأولى، كما يقول بشار الأسد (وأقول السنة الأولى من الثورة)،
التصريح الثاني، يخص السعودية، حيث كان الخطاب العام يركز على دورها (ودول الخليج) في "المؤامرة على سورية". وكانت السعودية تظهر من ضمن دول "أصدقاء الشعب السوري"، على الرغم من أن دورها وتصريحاتها إلى نهاية سنة 2012 كانت قليلة في ما يخص ما يجري في سورية، ولم تظهر إلا عبر دفع شيخ وهابي إلى الظهور بمظهر القائد للثورة، والمحرِّك لها، عبر اقتراح أشكال نشاطٍ كانت تبدو ذات فائدة للمتظاهرين. لكن النظام كان، ومنذ ما قبل الثورة، يحرِّض الفئات العلوية على متابعة قناة صفا التي يديرها، وهي (مع قناة وصال التي يديرها الشخص نفسه) أُنشئت للتحريض ضد الشيعة والعلويين، وكان يعمم الفتاوى التي تتعرّض لهما. وربما كان هذا أهم مفصل في الأشهر الأولى في تردّد انخراط العلويين، وفئات شعبية كثيرة أخرى، في الثورة. بالضبط نتيجة كل الفتاوى التي جرى تعميمها ضد العلويين والشيعة، ولأن هذا الشخص باتت تُحمل صوره في المظاهرات، وتتردد الشعارات المؤيدة له.
لكن تصريح بشار الأسد (لصحيفة أميركية) يظهر عكس ما كان يكرّره الخطاب العام، فقد قال إن الملك عبدالله بن عبد العزيز أرسل ابنه خالد مع بداية الثورة، وطلب "أن يسحق الثورة ويسحق الإخوان". وأكمل أن السعودية دفعت للنظام ستة مليارات ونصف مليار دولار. بمعنى أن السعودية، منذ اليوم الأول، كانت مع النظام، لأنها كانت تريد سحق الثورة التي بدأت من تونس، وامتدت بسرعة لافتة، إلى مصر والبحرين واليمن وليبيا، لتصل إلى سورية، وتطبق الطوق حولها. لهذا كانت معنية بـ "سحق الثورة"، خشية أن تنتصر في سورية فتصل إليها، وكان ذلك حتمياً، نتيجة الوضع الصعب الذي يعيشه جزء مهم من الشعب السعودي. لكن دورها لم يكن مفيداً، فيما إذا دعمت النظام علناً. لهذا أكملت دور النظام من خلال وقوفها في التحالف الذي سمي "أصدقاء الشعب السوري". وفي هذا المجال، قدمت خدمات كبيرة للنظام، أولها دور قناة صفا وشيخها، وثانيها تعميم خطاب الأسلمة، وربط دعم الكتائب المسلحة، بعد أن نشأت، بذلك. وشلّ نشاط كتائب مسلحة عديدة، بإخضاعها لسياستها، ومن ذلك جيش الإسلام. وكذلك مدّ جبهة النصرة، ثم "داعش"، بالمال والسلاح والرجال، وذلك كله بالتنسيق مع النظام. بمعنى أنها كانت تنفّذ على الأرض ما كرّره خطاب النظام بالتنسيق مع النظام نفسه.
نحو سنتين والسعودية تدعم النظام، وإنْ كانت تظهر أنها في موقع آخر، فقد كان يهمها أن يقف هذا المدّ الثوري، وأن يتكسّر على أبواب دمشق. ولا شك في أن التدخل الإيراني المباشر، بعد أن ضعُف النظام وكان يتهاوى بينما باتت إيران هي التي تتحكم بالسلطة، هو الذي جعل السعودية تقف ضد النظام، بعد ذلك كله، لسحق الثورة وضمان استمراره. لكن أهمية تصريح بشار الأسد أنه يكشف الدور السعودي، ويُظهر أن السعودية كانت في صفّ الممانعة. وهي الآن مع السياسة الروسية في سورية، ومع إخراج إيران منها. وبالتالي، أوضح تصريح بشار الأسد بالتالي أين كانت تقف السعودية، والدور الذي لعبته. وهذا يهدم جزءاً مهماً من معزوفة المؤامرة، حيث كان يقال إن السعودية أداة أميركا في تنفيذ المؤامرة ضد سورية، فيما يقول بشار الأسد إن السعودية ساعدت في دعم النظام، وفي تشويه الثورة وفق ما خطط. ووقفت معه في سحق الثورة.
تصريح ثالث: ارتبطت المؤامرة بما جرى اختراعه من صراع بشأن "خط الغاز". ولهذا أسميت "مؤامرة الغاز"، وجوهرها أن قطر وتركيا أرادتا مدّ خط أنابيب غاز من قطر إلى تركيا عبر سورية، وأن النظام رفض ذلك ارتباطاً بـ "علاقاته الحسنة" مع روسيا، لأن ذلك كان سيضرّ مصالح روسيا. وعلى الرغم من أن علاقة النظام مع تركيا وقطر كانت أفضل كثيراً من علاقته مع روسيا، حيث شكلوا معاً محور الممانعة، وحيث كانت علاقة النظام مع روسيا باهتة، وهو ما أشار إليه بوتين مرة، حين قال إن الأسد زار دولا أوروبية مراراً، ولم يزر روسيا سوى مرة. وبالتالي، كان من الطبيعي أن يوافق الأسد على هذا الطلب الذي سيفيد النظام بما يتحصّل عليه من أجور مرور الخط من الأراضي السورية. على الرغم من ذلك، أوضح بشار الأسد، بعد خمس سنوات من الثورة، أن هذا الخط الموهوم لم يعرض عليه، فقد أجاب عن سؤال لصحيفة إيطالية تعلق بأن هذا الخط هو سبب "المؤامرة"، بنعم، لكنه أكمل أن خط الغاز الممتد من الشمال إلى الجنوب لم يُعرض عليه، بل عُرض عليه خط من الشرق إلى الغرب، ووافق عليه.
بالتالي، لم يكن هناك مشروع لمدّ خط غاز بين قطر وتركيا. ولهذا لم تكن هناك مؤامرة، لأنه رفض ما لم يُعرض عليه. على العكس، وافق على الخط الممتد من الشرق إلى الغرب، أي الخط الإيراني القطري المشترك الممتد من حقول النفط والغاز المشتركة بين البلدين في الخليج العربي عبر العراق إلى سورية. أي أن قطر كانت مشاركة في هذا الخط، ولم تكن في حاجة إلى مؤامرة. وأيضاً كانت إيران قد اتفقت مع تركيا لمدّ خط أنابيب نفط وغاز عبر أراضيها، بهدف تصديره إلى أوروبا. وذلك كله من دون حساب الموقف الروسي الذي لم يكن في الحسبان حينها، والذي كان سيتأثر من هذين الخطين بالتأكيد. وكذلك كانت أميركا ضدهما، لأنهما سيهمان في فك الحصار المفروض على إيران ونفطها.
إذن، لم تكن هناك مؤامرة، ومواقف كل من قطر وتركيا من النظام اللذين كانا في صداقةٍ معه، نتجت عن سبب آخر، هو رفض النظام الإصلاح وزيادة العنف التي أخذ في ممارستها في
ربما جاء تدخل روسيا لكي تمنع خطوط النفط والغاز التي تهدد مصالحها. وحصلت على أكثر من ذلك كثيراً. ويشكل ذلك كله في الخطاب العام الذي التزم به إعلام النظام، وحفظه عن ظهر قلب كل الممانعين والداعمين للنظام، الذي أوصل إلى إظهار الصراع أنه بين النظام "الوطني والعلماني"، و"الإرهاب الجهادي الدولي" المتمثل بـ "داعش" وجبهة النصرة. حيث بات الأمر يتعلق بالاختيار بين النظام أو داعش والنصرة. بينما كان الأمر يتعلق بصناعة العدو، أي تحويل الصراع من شعبٍ ضد نظامٍ إلى صراع نظام ضد الإرهاب. هذا هو جوهر خطة بندر بن سلطان التي اشتغل النظام وحلفاؤه العلنيون والسريون على تحقيقها.