أنا فاسد

16 يناير 2018
+ الخط -
"أخيرًا سيتحقق الحلم".. ضرب رأسه بيده، حين لمعت عيناه بغتة، وهو يقرأ ذلك الخبر "المذهل" في الجريدة.. هل يعقل أن حلمه سيتحقق أخيرًا بالإقامة في فندق خمس نجوم؟... فندق ريتز كارلتون الشاهق، المدجّج بالكهرباء الساطعة الملونة، التي أحالت الليل إلى ظهيرة باردة، في العاصمة المشبعة بالسخونة والرطوبة، وبالرمال التي تسفّ الوجوه.
نعم، سيكون متاحًا له، بعد هذا الإعلان، أن يسمح لخياله أن يتأجّج، وهو يرى نفسه غاطسًا في الدلال الذي يصاحب الإقامة في مثل هذه الفراديس التي تسمى، عرضًا، فنادق: سيطوف عليه "ولدان مخلدون". أحدهم يفتح له الباب الزجاجي، ويفتح معه شفتيه على اتساعهما، ما إن يضع قدمه على رخام العتبة الرخامية الفسيحة. وآخر سيهرع إليه من بعيد، ليكفيه عناء حمل الحقيبة الفارغة، إلا من سروال مهترئ وزوج جوارب مثقوب من مقدمته ومؤخرته. وثالث يزوده بمناديل قبل دخول المرحاض. ورابع يعاجله بقدح العصير الطازج.. "ولدان" لا همّ لهم غير أن يوقظوا فيه ذلك الإحساس الخامد بالأهمية، هو الذي لم يعد يشعر بهذا الإحساس، منذ استيقظ على غروب الحياة العربية.. منذ متى؟ لا يذكر.
كل ما يذكره أنه استيقظ، ذات مساء، ليكتشف أنه يحمل جواز سفرٍ عربيًّا، لا يؤهله لغير السفر إلى الجحيم، وإلى زقاق الفقر الذي امتصّ حياته، فقد سرقوا من شبابه أثمن سنواتها، وهو يبحث عن وظيفة. وحين وجدها ظل عاطلًا عن العمل، أيضًا، لأنه اكتشف أن وظيفةً واحدة لا تكفي لسداد متطلبات الحياة العربية التي ليس هناك ما هو غالٍ فيها غير المعيشة فقط. أما الكينونة فأرخص من ثمن نملةٍ فقدت سربها، ومتاحة للدوس من كل الجهات، من المديرين والمسؤولين والوجهاء والمخابرات وموظفي الدوائر الحكومية والقبائل والتجار.
أما الآن، فقد اختلف الوضع، بعد أن قرأ هذا الخبر عن احتجاز رهطٍ من "الفاسدين" في ذلك الفندق الضخم، فلم لا يكون أحدهم؟ أليس من حقه، أيضًا، أن "يُحتجز" هو الآخر، ليكون متاحًا له أن يضغط على زر الخدمة، في أي لحظةٍ ليلاً، ليستبدل الشراشف والمخدّات الوثيرة، لا لسببٍ معين، سوى تأكيد مقولةٍ لطالما قرأها في كتب التسويق: "الزبون على حق دائمًا".
والأغرب أنه سيحقق هذا الحلم من دون أن يدفع "مليمًا" واحدًا، فهي إقامةٌ مجانيةٌ هبطت عليه من "الحكومة" ذاتها، ولا حاجة به أن يحلم بتدبير ثمن الإقامة؛ كل ما عليه أن يذهب إليها.. إلى "الحكومة"، ويقول لها بصريح العبارة: "أنا فاسد"، فافسحوا لي مكانًا في ذلك الفردوس، واجعلوني أحلّ فيه ضيفًا مكرمًا، مع رهط "الفاسدين" من أمثالي. وأعدكم أن أبدأ معكم مسلسلًا من المساومات، كما تشاءون، وصولًا إلى "تسويةٍ" مالية أدفع بموجبها المبلغ المتفق عليه لقاء "حريةٍ لا أريدها".
أخذته غمامة الحلم بعيدًا، وهو يحبك السيناريو في دماغه، ويبتسم بمكرٍ لم يألفه من قبل؛ إذ سيسعى، في أعماقه، إلى إطالة أمد المساومات، فتطول إقامته في ذلك "النعيم"، تمامًا كما يفعل في سوق الخضار، عند شرائه كيلو البندورة اليتيم، كل أسبوع، إلى الحد الذي يرهق فيه البائع، فيضطر الأخير، في النهاية، إلى إلقاء كيلو البندورة في وجهه "مجانًا".
على الوجه الآخر من السيناريو، الذي لم يتوقعه، صاحبنا، خصوصًا، حين وصل إلى باب الفندق، أو "الفردوس" كما سمّاه، فيقال إن ثمّة متشردًا كانت يمسح فيه "أمراء مخلّدون" عتبات الفندق الرخامية، لإلقائه خارج الفندق، وإعادته إلى مكانه في "جنة الحياة العربية"، من دون أن يعيروا أدنى شفقةٍ لصوته الذي كان يهزّ السماء: أدخلوني أيها الأوغاد، فأنا فاسد.. أنا فاسد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.