لقاء مع غاغارين

15 سبتمبر 2017

يوري غاغارين في لندن (11/7/1961/Getty)

+ الخط -
قضى السوفييتي يوري غاغارين مائة وثماني دقائق في الفضاء الخارجي، ودار في مركبةٍ تزن 4725 كيلوغراما حول الأرض. وبذلك يعد أول إنسانٍ يقوم بهذا العمل المثير. كان ذلك في أحد أيام إبريل/ نيسان 1961، واحتُسب نصرا سوفييتيا في حرب التنافس مع الأميركان الذين كان منهم أول إنسانٍ يمشي على سطح القمر، هو نيل آرميسترونغ، في ثاني رحلةٍ له إلى هناك، في 1969، وكان مع رائد فضاء آخر زميل له. ولما حدث مرةً أن شاهدتُ هذا العالم الشهير، في الرباط قبل نحو خمسةٍ وعشرين عاما، انشغلت بالتحديق في تقاسيمه وقيافته، وأناقته الخاصة، وراحت أخيلتي إلى التفكّر في ما صنعه هذا الرجل في العالم، وفي ما كانت عليه حدوسُنا، ونحن تلاميذ في المدرسة الابتدائية، يحدّثنا المعلم عن شخصٍ هبط على القمر اسمه آرميسترونغ. 

مناسبة هذا المفتتح هنا أن القناة التلفزيونية المصرية، "ماسبيرو زمان"، والتي يواظب صاحب هذه الكلمات على تفقّدها ليليا، ربما لمرضٍ يقيم فيه، اسمه الشغف بالعتيق، بثّت، قبل أيام، مقابلةً، بالأبيض والأسود طبعا، مع يوري غاغارين، أجرتها المذيعة تماضر توفيق، في 1962، وكان في زيارة إلى مصر، في أثناء جولة له في عدة دول، لترويج اسم بلاده ظافرةً بالسبق الذي أنجزه. كان يجيب بالروسية، على الأسئلة التي بالعربية، ومترجمٌ يخبرنا بما يقول. وبعد إنصاتي للمقابلة التي تعد وثيقةً تلفزيونية استثنائية، شعرت ببعض خيبة أمل، فلم يقل غاغارين مهمّا وفريدا، بل لم ينطق بما يُعتدّ به بشأن خطوةٍ علميةٍ ثوريةٍ قام بها، كما عدّت في زمنها ذاك، ولا تزال، في مسار تطوّر علوم الفلك والطيران إلى كبد السماء، وإلى كواكبَ صرنا بلا أي دهشةٍ من الوصول إليها، من كثرة "مشاوير" الأميركان وغيرهم إليها.
سألت المذيعة ضيفها الذي كان يرتدي بزّة عسكرية عن أجمل منظر شاهده في رحلته تلك، فأجاب إنه منظر وطنه.. وهنا، غشيني شعورٌ بالتعاطف مع رائد الفضاء الشاب (ولد في 1934 وتوفي في تحطم طائرة تدريب في 1968)، إذ بدا في إجابته هذه كأنه في وظيفةٍ دعائية، لا غير، لكنه استدرك حاله هذا، وقال إن المساحات التي تراها، وأنت في الفضاء خارج الأرض، أكبرُ مما تراه وأنت في الطائرة، حيث ترى الأرض مغطاةً بطبقةٍ زرقاء، فيبدو المشهد مهيبا ورائعا. ولمّا سئل عمّا إذا كان قد شعر بالخوف وهو هناك، أجاب بأنه لم يكن لديه وقتٌ للخوف. وبدت عبارته هذه، كما وصلت إلى أفهامي مترجمةً، على شيءٍ من المجاز الذي ينتسب إلى الأدب، أو الحوار في نصّ مسرحيّ جيد.
ليس لأنها كانت قصيرةً، ولا لأن يوري أليكسيافيتش غاغارين أطنب في شكر "الجمهورية العربية المتحدة" على استضافته، بدت المقابلة التلفزيونية غير حارّة، ليست في منزلة ذلك الصنيع السوفييتي التاريخي. ولكن، حتى لا أبدو متعالما أو متفلسفا، أظن أن الشعور الذي تمكّن مني بنقصان القيمة المتوقّعة لإجراء محاورةٍ مع رائد فضاء، رأى كل الأرض من خارجها، إنما يعود إلى ما لا علاقة له لا بغاغارين، ولا بما قال، ولا بما سألته تماضر توفيق، وإنما إلى الحمولة الكثيفة للخيال الذي تقيم فيه مسألة الأكوان والقمر والنجوم والكواكب والأجرام والفضاء. هذه شؤونٌ للأدب، للشعر والغناء غالبا. لينشغل العلماء من طينة غاغارين وآرميسترونغ وأترابهما بفيزياء الفضاء وانعدام الأوزان وانتفاء الجاذبية هناك، وحديثهم عن هذا كله لن يشدّنا إليه. ما حاجة غاغارين، مثلا، إلى الخيال، وقد رأى بأم عينيه ما لا تدركه العيون، فتحلّق الأخيلةُ في البحث عن تصاوير وأوصافٍ له؟
عندما كتب مسرحيته "شاعر على القمر"، أراد توفيق الحكيم أن يُمايز الشعراء وأهل الإبداع والفنون عن ناس العلم والمختبرات. انتصر لهم، عندما هبطت مركبةٌ على القمر برائديْ فضاء عالِميْن وشاعر. جعل الأخير يحاور كائناتٍ روحانيةً نورانيةً هناك، ذات رقّة عالية، وترفّ حواليه موسيقى حالمة رقيقة، وهو تحيط به أضواءٌ خافتةٌ ذات ألوان. جادل هذا الشاعر صاحبيْه بشأن "كارثة" أخذهم صخورا من القمر، لإجراء تجريبٍ عليها في الأرض. غضب، واعتبر فعلتهم نذر تخريبٍ للإنسانية. .. تخيلوا، كم كانت قرائح الشعراء ستخسر لو أن زيارة القمر من عاديّ طبائع الدنيا. هل كان الشاعر القديم سيقول: ... فلست أدري وذيلُ الليل يسترنا/ أتلك في حُسنها أبهى أم القمرُ؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.