ضاعت العربية وضاع العرب

30 يوليو 2017
+ الخط -
شهدت اللغة العربية اهتماما بالغا في هذا الزمن، وما ذلك الإرث العظيم إلا خير برهان على هذا الازدهار الفريد من نوعه، وأنت ترى أفذاذا قد خلّفوا مجلدات في مختلف العلوم، على الرغم مما ميّز عصرهم من تأخر، بالمقارنة مع ما نعيشه اليوم، حيث توفر الإمكانات والفرص.
نجزم أن ما أصابنا من حروب وخلافات وهوان أمام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأجداده، نابع من هواننا وذلنا أمام هذه اللغة التي كانت ذات يوم على عرش اللغات، وأنتجت عقولا مفكرة أبدعت العلوم، وأسست لنظريات ما تزال لم تكشف أسرارها العجيبة. ومما لا شك فيه أنّنا في حاجة لجيل يقتدي بذلك الجيل الذهبي، فهي الحالة الوحيدة التي يمكن أن نفهم ونستوعب فيه ما كتبوه.
يؤلمني قلبي، وأشعر بخيبة أمل فظيعة، وأنا أرى لغات أقوام ولهجات مهجنة على أرض الجاحظ والخليل، وتقديس آخر للغات أجنبية على أرض ابن حزم والقاضي عياض. فهل تدرون الآن ما السبب في كل هذه النكسات والأزمات؟
بكيت وجعا، وضاقت علي نفسي، وازداد عصيان الحنين إلى ذلك الزمان، وأنا أرى هذه الأمة تفقد أعضاءها عضوا عضوا، وكأن شيئا لم يحدث، ويزداد الخجل يراودني، ويرقص الحزن على قلبي، عندما أقرأ عن تاريخ الأندلس وعلمائها، وما أبدعوه وتلك المكتبات التي ربّت مدنا، صارت اليوم لا يربطها بالعرب سوى الاسم، وتلك الحروف العربية الرنانة التي تزيّنت بها أسماؤها الفاتنة.
ولعمري إن العرب ضاعت بضياع العربية، وانهزموا بانهزامها. فزماننا لم يعد مثل زمن الفتوحات والغزوات، وحروب اليوم لا تشن بالسيوف والخيول، وإنما صارت اللغة من وسائلها الفتاكة، وأصبحت من قياداتها الأولى، وصار الفتح في الحاجة لجيل مجاهد يجعل اللغة همه الأول. اللغة ولا شيء غير اللغة، تأكيدا على أنّ اللغة هي المتحكمة في العالم، وفي تغيّره والتصرف فيه، وطريق إلى امتلاك ناصية العلم والمعرفة، ومن ثم إلى المعالي الذي نتمكن من خلاله النظر إلى ذلك الزمن الجميل، والاقتباس من أنواره المباركة.
قد نفقد الأمل أحيانا ونحسّ بنوع من الكآبة، تجعلنا مقيدين بسلاسل الحزن والفشل. لكن، مهما ساءت أوضاعنا، ينبغي أن نعي دورنا في الحياة، وما ينتظرنا وينتظر أجيالنا المقبلة لمواصلة الطريق، بعد هذه الغيبوبة الطويلة. ومما ينبغي أن نتعلمه من الحياة أنّ السقوط، في غالب الأحيان، يكون دافعاً إيجابياً للنهوض، وبداية أخرى للسعادة، كما أنّ الغيث بداية السعادة، وحزن الخريف بداية لجمال وسعادة الربيع.
ثم إنّ السعي إلى المعالي لا يمكن أن يكون يوماً بكثرة الحديث ونشر الأحلام والتمني الفارغ، وإنما بالعمل والاجتهاد وتنزيل تلك الأحلام إلى خطوات عمل محسوسة، والبحث لإيجاد مواقع لها وسط الناس. وهو ما يجعلنا مرة أخرى في حاجة إلى ذلك الجيل الذي لن يبيع وطنه ولغته بأبخس الأثمان، تلك الطليعة المستمدة فكرها من الوحي، ولغتها الوفية للماضي الجميل، المنشدة لمستقبل أجمل، على الرغم من مرارة اليوم وأوجاعه المقيتة.
مصطفى العادل
مصطفى العادل
مصطفى العادل
باحث في اللسانيات العامة بكلية الآداب، جامعة محمد الأول-المغرب. باحث بمركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية. الأمين العام للمركز العربي للبحوث والدراسات المعاصرة. رئيس قسم الأدب واللسانيات البينية بمركز مفاد.صدر له كتاب "المدارس اللسانية وأثرها في الدرس اللساني بالمغرب". يعرّف عن نفسه بالقول "كل لحظة تأتيك فكرة، يلهمك الله نورا لتعبر به عن معنى، فكن دوما مستعدا بسيف القلم كي لا تهزم في معركة الإبداع".
مصطفى العادل