الدبلوماسية القطرية تحاصر دول الحصار

14 يوليو 2017

وزيرا الخارجية القطري والأميركي في الدوحة (11/7/2017/فرانس برس)

+ الخط -
ما فتئت الدبلوماسية القطرية تسترعي اهتمام متابعين عديدين للأزمة الخليجية الحالية في العالم، وخصوصاً من الدول الغربية المتنفذة في السياسة الدولية. وبعيدًا عن لغة المجاملات، فإن دراسة علمية وموضوعية متأنية للخطاب التواصلي في الأيام الماضية تمكّن من القول إن تعاطي دولة قطر مع الأزمة مثال جدير بالاعتبار، دراسة حالة متميزة في مجال العلاقات الدولية لبرامج العلوم السياسية والتواصل السياسي في الجامعات.
منذ بداية الأزمة، لم تنزلق تصريحات الحكومة القطرية في سياسة رد الشتيمة بالشتيمة، وكَيل الاتهامات جزافا لدول الجوار التي قرّرت فجأة فرض حصار جوي وبري وبحري غير مسبوق في تاريخ المنطقة العربية. بل وضعت الحكومة، منذ البداية، حزمةً من المعايير الأخلاقية، تحدّد الخطاب الرسمي للدولة، ولكلّ من يدلي بأيّ تصريحٍ بخصوص الوضع الراهن لوسائل الإعلام المحلية والدولية. لا تصادر هذه المعايير حرية الرأي، بل تقيّدها ضمن أخلاقياتٍ مهنيةٍ عاليةٍ، عنوانها الموضوعية والصدق في نقل الخبر وعدم التهويل أو نشر الشائعات.
وانبرت هذه الدبلوماسية على أصعدةٍ متعدّدةٍ، ضمن خطةٍ معالمها واضحة لأي مراقب متفحص، بخطى مدروسة وخطاب إعلامي وسياسي ثابت في إدارة الأزمة.

في مواجهة استراتيجية الحرب النفسية
كان واضحًا، منذ البداية، أن دبلوماسية دول الحصار بإطلاقها العنان لوسائل إعلامها المختلفة، من محطات تلفزيونية وإذاعات وصحف، هي سلوك استراتيجية الحرب النفسية التي من شأنها أن تحاصر دولة قطر محليا ودوليا. وبالتالي، تربك ردة فعلها وتجعلها تخضع لمطالب الدول الأربع. في خطوةٍ يمكن القول إنها محاولةٌ من الحلف الرباعي إلى السعي نحو فرض قطبٍ جديد، يتحكّم في مصير المنطقة، يحل محل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، بعد تعطل وظائف هذه الهيئات بما فيها منظمة التعاون الإسلامي.
وفي المجمل، انحصرت دبلوماسية دول الحصار في التهديد والوعيد وإطلاق العنان لوسائل إعلامها للنيل من دولة قطر، فظهرت على وسائل إعلام الدول المحاصرة برامج ومقالات تهدف إلى إشاعة مناخٍ من التخويف والتهديد والحرب النفسية. إذ نقرأ العناوين الآتية على صفحات الجرائد: "مبعوث قطر للأمم المتحدة يقول إن قطر مصرّة على مساندة الإرهاب" (العربية)، "العلاقات المشبوهة لقطر" (العربية)، "الدليل الشامل لأزمة قطر" (العربية)، "الشركات العالمية تستعدّ للرحيل من قطر" (عكاظ)، "قطر تترنّح بين قطع العلاقات والتحالفات الفاشلة" (عكاظ)، "غباش: أموال الدوحة في لندن ملوّثة بالدماء" (عكاظ)، "قطر تواجه عقوبات حاسمة بعد رفضها المطالب" (البيان)، "قطر بين عسكرة القضية وتزييفها والتمسّك برموز الإرهاب" (البيان)، انتهت المهلة وحانت ساعة الحسم" (البيان)، "قطر.. "جزيرة" معزولة" (الرياض)، "مطالبات دولية لـ"الفيفا" بتجريد قطر من "مونديال 2022" (الرياض)، "التصعيد يلوح في الأفق أمام مكابرة قطر" (الرياض)، "قطر تختار المجهول" (الخليج)، "قطر تلعب في الوقت الضائع" (الخليج)، "بوادر موجةٍ ثانيةٍ من الإجراءات ضد قطر" (الشرق الأوسط).
هذه عيّنةٌ موجزة من سيلٍ عجّت به وسائل إعلام عديدة في الدول الأربع. وقراءة متأنية للمشهد تقول إنّ الخطاب الإعلامي لدول الحصار انحصر في إطلاق الاتهامات جزافا، ومن دون إبداء حجج واضحة مشفوعة بأدلة دامغة، وقد غلب على بياناتهم التهديد والوعيد الذي يعطي
الانطباع عن الخطاب الفوقي المتعالي على الأعراف الدولية في احترام الآخر، فالإرهاب ومساندة الجمعيات الإرهابية كانت أكثر كلمة استخدمها وزراء خارجية الدول المذكورة، فبها يتم تجريم فصائل سياسية، تعمل في كنف القانون، وهي جزء من العملية السياسية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، الذين هم أعضاء في البرلمان في الكويت والبحرين والأردن، وفصيل مشارك في حكومة الائتلاف في اليمن. وأشقاؤهم في الإسلام السياسي جزء من الائتلاف الحاكم في تونس منذ الثورة، ويقودون الحكومة في المغرب. فعن أي إرهابٍ يتمّ الحديث هنا؟ وأي معايير يتمّ اعتمادها لتصنيف الفاعلين السياسيين والفاعلين في المجتمع المدني العربي؟ إذ حتى الأمم المتحدة والدول الغربية مجتمعة لم يصنفوا جماعات الإسلام السياسي مثل "الإخوان المسلمين" و"النهضة" في تونس و"العدالة والتنمية" المغربي ضمن الجمعيات الإرهابية.
وعلى العكس، فقد بدا خطاب الدبلوماسية القطرية متناسقا وواضحا منذ البداية، وهو بالأساس رفض الاتهامات، والإصرار على احترام سيادة دولة قطر ورفض الوصاية على دولة قطر، والدعوة المستمرة إلى الحوار، وفض الخلافات بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. ومنذ البداية، بادرت الحكومة القطرية إلى التحرّك على عدة أصعدة. فجاءت المطالب الثلاثة عشر منافيةً لقواعد العلاقات الدولية في احترام سيادة الدول المستقلة، وعدم تقييد حرية وسائل الإعلام. وهو ما حدا بوزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إلى التصريح بأن "الإجراءات مسيئة لأي دولة في العالم"، ولا تحتكم لمعايير العلاقات الدولية. و"لا يمكن وصم من يختلف معك بالإرهاب لمجرّد الاختلاف"، إذ يفتح هذا الأمر الباب لخلافات وحروب في المنطقة لا آخر لها. وبسبب هذه الرؤية، فإنه على المدى البعيد، هناك مخافة من "تسييس لمفهوم الإرهاب". وقال "نحن منفتحون على الحوار، ونرحب بأي جهدٍ جدّي لحلّ الأزمة، مع ضرورة الحفاظ على السيادة القطرية".
ويبدو بالتالي أن الدبلوماسية القطرية المتّزنة تمكّنت، في نهاية الشهر الأول من الأزمة، من محاصرة دبلوماسية دول الحصار، وإبطال مفعولها تدريجيا. إذ لم تفلح الدبلوماسية الضبابية للدول الأربع مجتمعة (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) في شيطنة دولة قطر، أو وضعها في زاوية "الإرهاب"، فلم تترك الدبلوماسية القطرية المتوازنة مجالا لدبلوماسية دول الحصار الهجومية سوى الارتباك وعدم القدرة على دفع المواجهة إلى الأمام. ولعل دول الحصار عوّلت، منذ البداية، على أن تخضع دولة قطر للمطالب التي وضعوها من دون مقاومة طويلة، وأن تتسم ردودها بالتشنج والتسرع لعظم الهجمة السياسية والإعلامية التي تعرضت لها.
وبالنظر إلى التطورات الحالية، والحراك الدبلوماسي لمحاصرة الأزمة، يتضح يوما بعد يوم أن الحرب النفسية التي قادتها دبلوماسية دول الجوار لم تفلح في الوصول إلى مبتغاها. وأن وسائل الإعلام التي تشن، منذ بداية الأزمة، حملة إساءة بلا هوادة على دولة قطر، لم تفلح، هي الأخرى، حتى في إقناع الجمهور الخليجي بمبرّرات هذه الهجمة المفاجئة، ناهيك عن الجمهور العربي، أو الرأي العام الدولي، فقد تتالت الدعوات في عواصم عربية وغربية عديدة إلى تحكيم سياسة العقل والمنطق، عوض التهديد والوعيد.
وقد أدركت دول الحصار متأخرةً أن في الأعراف والعلاقات الدولية لا يمكن لدولةٍ أن تطالب دولة أخرى ذات سيادة بغلق شبكة تلفزيونية، وخصوصا إذا تعلق الأمر بشبكة الجزيرة التي
صارت الآن رقما صعبا في الإعلام الدولي، ويشهد بمهنيتها القاصي والداني. أو إغلاق صحيفة "العربي الجديد" التي احتلت مكانة بارزة في الصحافة العربية في وقت قياسي. فليس مستغربا، إذن، أن يلقى هذا الطلب استهجانا في الأوساط الغربية، وأوساط العالم الحر. إذ هل يُعقل، مثلا، أن تطلب فرنسا من بريطانيا إغلاق شبكة بي بي سي؟ أو أن تطلب بريطانيا من الولايات المتحدة إغلاق شبكة سي أن أن؟ الأمر ضرب من الخيال. فحسب المعايير الدولية التي بموجبها تعمل وسائل الإعلام إذا لم تعجبك السياسة التحريرية لقناة دولة أخرى عليك أن تبعث وسيلة إعلام تنافسها في المهنية والتأثير على الرأي العام. فبدل شيطنة "الجزيرة"، ومحاولة خنق حرية التعبير في العالم العربي، الأجدر بدول الحصار فتح مجال التعدّدية في الرأي، وتحرير المجال العام من سيطرة الرأي الواحد. فلماذا لا يتنافس العرب على هذه القاعدة؟ ولعلّ الأجدر بقناة سكاي نيوز العربية أيضا مقاطعة سكاي نيوز الأم في بريطانيا وتسليط عقوبات عليها، لأنّ فيها فسحة أوسع لحرية الرأي، ولا تأبه للمشكلات المفتعلة مع دولة قطر، إذ جاءت نشرة الأحوال الجوية يوم الجمعة 7/7/2017 برعاية الخطوط الجوية القطرية!

المنعطف الحاسم في أزمة الحصار
كان المنعطف الحاسم في تغيير الخطاب الدبلوماسي لدول الحصار بعد اجتماع وزراء خارجيتها في القاهرة، في 5 يوليو/ تموز الجاري، إثر التدخل المباشر للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والذي أكد على ضرورة حل الخلاف بالحوار وعدم التصعيد. ففي اليوم نفسه، يتصل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ويطلب منه حل الأزمة بالتفاوض وعدم اللجوء إلى التصعيد. ما دلّ على أن دبلوماسية الدول الأربع مفرغة من أي سلطة أو إرادة حقيقية، إذ تكفي مكالمة من الرئيس الأميركي لتغيير مسار الأزمة. ويبدو أن دبلوماسية دول المقاطعة بدأت، منذ تلك اللحظة، تنحو نحو الواقعية، وتنزل من البرج للمحافظة على ما تبقى من ماء الوجه، فجاءت لغة البيان بعد الاجتماع في مصر مرتبكة، وليست باللهجة نفسها التي كانت سائدة في الأسابيع الماضية، فيبدو أن استراتيجية الدول المحاصرة كانت مبنية على حسابات خاطئة. إذ تنادت الأصوات حول العالم لرفض المطالب التي وضعتها الدول الأربع، فالخارجية الفرنسية تؤكد على احترام سيادة الدول، وفرنسا ملتزمة بالدفاع عن حرية الإعلام والتعدّدية في حرية التعبير. ثم فشل وزيرا خارجية مصر والسعودية في إقناع الدول الأفريقية بمقاطعة قطر في قمة دول الاتحاد الأفريقي الأخيرة. وتنادي نقابات الصحافة في دول أوروبية مختلفة بضمان حرية التعبير، ورفض مطالب إقفال شبكة الجزيرة.
وفي تصريح له، ذكر ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، بعد لقاء القاهرة، أن المطالب سوف تكون حسب المعايير الدولية. والسؤال هنا: حسب أي معايير، إذن، وضعت المطالب الثلاثة عشر السابقة؟ أم هي معايير تلبي طموحاتٍ شخصيةً، وتهدف فقط للنيل من دولة قطر، سواء في شكل ذراعها الإعلامي شبكة الجزيرة، أو أذرعها الاقتصادية والسيادية الأخرى؟ فقد جاء التصريح باهتا، وينمّ عن ضبابية في الخطوات المقبلة، إذ لا يبدو، على لسان المدير السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش، "أنهم يعرفون إلى أين يتجهون في الخطوة المقبلة"، وأن سياسة دول الحصار "مرتبكة، لأن السياسة الخارجية الأميركية مرتبكة هي الأخرى بهذا الصدد، ولا أحد يعرف إلى أين يتجه رأي الرئيس ترامب" في المستقبل.

"الجزيرة" والدبلوماسية الناعمة
لم تدّخر شبكة الجزيرة، بأذرعها المختلفة، جهداً في الدفاع عن دولة قطر، وكشف بطلان كل المغالطات التي عجت بها وسائل إعلام خليجية عديدة، مثل قناتي العربية وسكاي نيوز، وصحف مثل البيان، الخليج، عكاظ، الشرق الأوسط. ففي الأسابيع الأخيرة، استكملت قناة الجزيرة دور الدبلوماسية القطرية في الكشف عن بطلان الادعاءات المختلفة لدول الحصار عن اتهام دولة قطر بمساعدة الجماعات الإرهابية. ودأبت شبكة الجزيرة، بقنواتها المختلفة، على العمل على صعيدين: إبراز مجهودات الحكومة القطرية وجمعياتها الخيرية المختلفة في خدمة السلم العالمي، وذلك بلعب دور المفاوض، في أحيان عديدة، أو الداعم للقضايا الإنسانية في
أفريقيا وتونس وسورية وليبيا ومصر ودول أخرى، أو دعم القضية الفلسطينية سياسيا وإنسانيا، ودعم الشعوب المظلومة نحو التحرّر، مثل دعم ثورات الربيع العربي. والجانب الآخر هو التركيز على فضح الخروق التي ارتكبتها دول الحصار سياسيا وحقوقيا، والذي يمسّ النسيج العربي، مثل دعم الإمارات خليفة حفتر في ليبيا، أو التدخل في اليمن بخلاف هدف "عاصفة الحزم". بالإضافة إلى إبراز التجاوزات الحقوقية للمعارضين، وكبت حرية التعبير في الإمارات، وكذلك في السعودية. مع العلم أن شبكة الجزيرة كانت قبل هذه الأزمة تتجنب الخوض في القضايا الشائكة التي من شأنها أن تزعج دول الجوار. فلقد انتقد باحثون عديدون "الجزيرة" مثلا خلال سنة 2012 بالكيل بمكيالين في تغطية الاضطرابات الاجتماعية في البحرين، وعدم تخصيص مساحة كافية لها في البرامج الإخبارية، مقارنة بالتغطية المستمرة للثورات، التونسية والمصرية والليبية، سنة 2011.
وفي خضم مسيرتها خلال العشرين سنة الماضية، تعرضت شبكة الجزيرة لمضايقات عديدة، ومن دول مختلفة. وجديدها محاولة دول الحصار إسكاتها، إذ هي بالنسبة لهم التي حشدت الجماهير العربية، كي تنتفض على حكّامها في ثورة تونس وليبيا ومصر وسورية. فقد صرح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، بأنّ "الارهابيين يستغلون وسائل الإعلام ويستغلون حرية التعبير". ويرد وزير الخارجية القطري بأنّ "جذور الأزمة الحالية ليست متعلقة بالإرهاب، بل بمحاولة تكميم فم الطرف الآخر". فالأمر إذاً ليس متعلقا بمدى تمكّن بعض الجماعات، مثل القاعدة، من إيصال رسالتها إلى العالم، ولكن الأمر يتعلق بتوفير شبكة الجزيرة مساحة مهمة للتعدّدية، سواء تعلق الأمر بالمعارضين السياسيين، أو الناشطين الحقوقيين، أو مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن الدولة.

دبلوماسية نشطة
تمكّنت دولة قطر، في العقدين الأخيرين، من تحقيق قفزة نوعية في شتى المجالات التنموية. ما انعكس إيجابا على علاقاتها الدولية وصورتها في الخارج، فبعد اكتشاف حقول النفط والغاز في بداية التسعينات، والتي أكسبت قطر استقلالية مالية، واستثمارا في البنية التحتية والمنشآت، بدأت دولة قطر تستضيف الفعاليات الدولية الكبرى المختلفة. ومثلت استضافتها محادثات منظمة التجارة العالمية في العام 2001، والتي أطلق عليها جولة الدوحة، والتنظيم المتميز لدورة الألعاب الآسيوية والعربية، والتنافس الندّي مع الدول الكبرى بشأن استضافة كأس العالم لكرة القدم في العام 2022 والفوز بالملف أمام أميركا وغيرها أكسب هذه الدولة الصغيرة بُعدا عالميا يسترعي الاهتمام.
بالإضافة إلى هذا، وبحسب التصريحات الرسمية، تمكّنت قطر من تعليم سبعة ملايين شخص حول العالم، وساهمت في نزع فتيل ستة خلافات في المنطقة. وبفضل المساعدات المالية، وفرت قطر 300 ألف وظيفة للعاطلين في دول شمال أفريقيا، كما قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وهو ما ساعد في تفكيك منظومة الإرهاب ومقاومة اليأس لدى عشرات الآلاف من الشباب في المنطقة.
وخلال الأزمة الخليجية الراهنة، تمكّنت الدبلوماسية القطرية النشيطة، وخلال فترة وجيزة من
حشد دعم دولي واضح على شتى الأصعدة، ما عزّز مكانتها إقليميا ودوليا، ونالت بذلك احترام الهيئات والحكومات في العالم. وهو بالتالي ما مكّنها أن تنحت لنفسها صورة متميزة لدى الرأي العام العالمي، دولة صغيرة بحجمها، لكنها غنية بثرواتها ثابتة في مبادئها ماضية في مناصرة قضايا العدل والحرية للشعوب المقهورة. فبروز دولة قطر لاعبا دوليا مهما يمكن أن يرتقي بالواقع العربي ليس جديدا في التاريخ الحديث. لكن، بالتأكيد الدور الذي تقلدته قطر في العقد الأخير، خصوصا، قد عوّض الدور المؤثر في صناعة السياسة العربية لدولٍ كانت، في السابق، تمثل محور الممانعة، مثل سورية والعراق ومصر. ومن مفارقات التاريخ العربي أن الممانعة والصمود على المبادئ ينتقل إلى الدول التي كانت تعتبر هامشيةً في صناعة المصير العربي، فدور الممانعة تحول إلى دولة قطر، إذ هي تكاد تكون الحامي الأساسي ماليا وسياسيا للمقاومة الفلسطينية من حرب الإبادة والمحاصرة التي تتعرّض لها غزة منذ سنة 2014.
إذن، وفي المحصلة، جاءت المطالب الثلاثة عشر التي أعلنتها دول الحصار، لتجرّد قطر من صفتها السياسية دولة مستقلة ذات سيادة، وعضوا في الأمم المتحدة. لكن، يبدو أن نجاح حكومة قطر في إدارة الأزمة باقتدار قوّى من عودها، وأدّت الحملة المناوئة إلى مفعول عكسي. ولعلّ الأيام المقبلة سوف تشهد انتقال دول الحصار إلى موقع الدفاع بدل الهجوم، لأن الحجة التي بنيت عليها استراتيجيتهم في محاربة قطر باطلة، ولا أساس لها. فتورط الإمارات، مثلا، في محاولة بث الفوضى، وإفشال الانتقال الديمقراطي في تونس، ودعم مليشيات خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، ودعم تقسيم اليمن بمد المنشقين في الجنوب المال والسلاح بدأ يتكشف للعيان.
وختاما، يتضح، يوما بعد يوم، أن الدبلوماسية القطرية وضعت نفسها، إلى حد كبير، في الجانب الصحيح من التاريخ، فيما يتعلق بالقضايا الكبرى التي تمسّ المنطقة العربية والعالم الإسلامي، فبوصلة التوجهات العامة نحو التوازن مع الانحياز غير المخلّ للقضايا العادلة لا تكاد تخطئها العين.
A0125766-417E-4A39-BD8A-20E5CE5C2224
A0125766-417E-4A39-BD8A-20E5CE5C2224
نور الدين ميلادي

أستاذ جامعي تونسي في الإعلام والاتصال

نور الدين ميلادي