11 نوفمبر 2024
الأزمة الخليجية وهذا الإعلام
نشبت، قبل عشرين عاماً، أزمةٌ سيئة في العلاقات بين مصر وقطر، خاض في غضونها الإعلام في البلدين منازلةً ضروسا. وحدث أن صحافياً مصرياً، شهيرا إلى حد ما، كتب في "الأخبار" القاهرية مقالا مطوّلا، من أحطّ ما قرأتُ في حياتي، من فرط ما فيه من بذاءاتٍ وسفالاتٍ، تجرّأت على مسؤولين كبار في قطر. لم يكن الإنترنت قد ذاع بعد، غير أننا، في الدوحة، قرأنا المقال في الصحيفة التي دخلت البلاد كالعادة. ولا أمالئ دولة قطر في القول إن جرعة "التسامح" العالية التي أبدتها، بسماحها بعبور الصحيفة، ليست مسبوقةً عربياً (يمكن استثناء لبنان). أدهشني الأمر، وكنت حديث العهد في مغتربي الخليجي (المتواصل). وكان يأتي إلى خاطري أن الصحيفة العربية اللندنية التي كنّا، في عمّان، نواظب على قراءتها يومياً، حدث مراتٍ عديداتٍ أننا كنا نشتريها منزوعا منها صفحةٌ أو اثنتان، لأن مسؤول الرقابة رأى فيها أخباراً، أو موضوعاتٍ، لا يحسُن أن يقرأها أحدٌ في الأردن، إذا لم يمنع توزيع الصحيفة تماماً.
ما يجري في هذه الأيام موصولٌ بواقعة عبور ذلك المقال المنحطّ الأجواء والأراضي القطرية، قبل عقدين، إذ نطالع في الدوحة، في منازلنا إن شئنا، صحيفةً إماراتية ورقيا، تكتظّ عواميدها يوميا بالكلام الساقط إياه عن قطر ومقاماتٍ عليا فيها، ويتصدّر الصفحة الأولى فيها التشنيع إياه. وإذا وجد واحدُنا، في الدوحة، بعض وقتٍ لديه يضيّعه في مطالعة التفاهات الفائضة، في موقع اليوم السابع الإلكتروني، (أظنّه أوطى منصةٍ إخباريةٍ في العالم) عن قطر و"الإرهاب" الذي تموّله، فله ذلك، وله أن يجول في شبكة الإنترنت على عموم الصحف والمواقع المصرية، وكثيرٌ منها يحفل بالرداءات المعلومة اللغة عن قطر وقيادتها. ومن عجائب الزمن الذي نعيش أن الدولة التي صرعنا الطبّالون إياهم بتذكيرنا بأنها عرفت الحضارة قبل سبعة آلاف سنة يكاد المسؤولون فيها يتفرّغون لإصدار قرارات الحجب والحظر لمواقع وصحف عربية، فلم تعد "العربي الجديد" تحظى وحدها بهذا الشّرف، بل صارت الصحف القطرية المحلية ترفل أيضا بهذه الحظوة. يحدث هذا في دولة الريادة الكبرى، بينما تتعفّف دولة قطر، ويسمّيها السافلون هناك، في فضائيات الأجهزة وجرائدها ونشرياتها، دويلةً، عن ممارسة هذا الأمر الذي يليق بالصغار المنشغلين بالصغائر.
أما عن فضائية الجزيرة، فالإيجاز الأوفى بشأنها في نصيحةٍ تُسدى إلى مصر، ومعها الإمارات والسعودية (ومن شاء)، وكان الأنفع أن يؤخذ بها قبل سنوات. ولا يزيد صاحب هذه الكلمات في الطنبور وترا إذا ما استعادها، وقد قيلت وكُتبت غير مرة، بل يُحسب لإعلاميين خليجيين أنهم تبنّوها مبكرا، وجهروا بها قبل عشرين عاما (داود الشريان مثلا). موجز النصيحة أن على من لا تعجبه "الجزيرة" وتُزعجه أن يصنع فضائيةً أحسن منها وأفضل. وكم كان سيُسعدنا، نحن النظّارة العرب من ملايين مشاهدي الفضائية العتيدة، لو أن قناة أبوظبي و"العربية" تفوّقتا عليها، أو حاولتا، فالمنافسة الإعلامية النظيفة تُثري المهنة. ونتذكّر أن قناة أبوظبي اجتهدت، في مطلع العقد الماضي، وحاولت، وصنعت لنفسها موقعا متقدّماً، وزاحمت "الجزيرة" في حصة المشاهدة، إبّان تغطيات الانتفاضة الفلسطينية والأحداث الأولى في غزو العراق واحتلاله، إلا أن "قراراً ما" أرجعها القهقرى، حتى وصلت إلى البؤس الراهن. وفي الذاكرة أن الجمهور العربي العريض استحسن في "العربية"، قبل سنوات، بعض إنجازاتٍ طيبةٍ محدودة، غير أن مسار المحطة اختير له أن يكون على ما نعرف ونشهد من ذيليةٍ ودعائيةٍ مشهودتين. أما الساعات الست، غير المنسية، والتي بثتها قناة العرب الموؤودة قبل أن تُسارع سلطات البحرين إلى إقفالها، فواقعةٌ كبرى في تاريخ صناعة الإعلام، قديماً وحديثاً.
... لدى الإمارات ومصر والعربية السعودية الإمكانات والخبرات التي تمكّنهم من صناعة إعلام آخر، يرجّ موقع "الجزيرة"، إذا تيسّر قرارٌ سياسيٌّ، متحرّرٌ من العقلية الراهنة، ذات البنية "البعثية" التي تتوهّم أن المناطحة الراهنة إنما هي طورٌ من حروب "تشرين" حافظ الأسد مع "قادسية" صدّام حسين، والعكس صحيح. فيما القصة بالضبط أن ثمّة ثقةً عاليةً بالنفس ظاهرةٌ في أداء قطر الإعلامي، وثمّة أرطالٌ من بؤسٍ محزن، في الأداء الإعلامي للدول التي تحاصر قطر.