17 أكتوبر 2024
نحو أبرتايد عالمي (1-2)
كشفت الحرب، بل الحروب، الجارية على الأرض السورية، المستمرة منذ ست سنوات، عن الأزمة العميقة التي تهز نظام العالم الذي ولد من حربين أوروبيتين، أو بالأحرى غربيتين، سمّيتا عالميتين، أنهتا عصر الحروب القاريّة، وكرّستا، في الوقت نفسه، السيطرة الغربية على العالم. فخلال العقود الستة، أو السبعة الماضية، تبدل وجه العالم، ونمت قوى كثيرة في القارات الثلاث الكبرى، وتطوّرت اقتصاداتها وقواها العسكرية ومشاركتها الدولية ونفوذها، بعد أن لم يكن يُحسب لها حساب، كما غيرت ثورة المعرفة والمعلوماتية نمط تفكير الأجيال وتطلعاتها، بينما حافظ نظام نهاية الحرب العالمية الثانية العالمي، المجسّد بمنظومة الأمم المتحدة، على نفسه كما كان.
وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد، كما هو متوقع، عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة، وتطور المصالح، وغطّى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة، وأخفق في المساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومةٍ سياسيةٍ قانونية، أوجد التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي أصبح من الصعب السيطرة عليها. وفي أحيان كثيرة، كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها، من أجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروبٍ جانبية، أو موازية، يمكن التحكّم بها، بل والاستفادة منها، لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه.
ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وجديدها الحرب السورية التي تكاد تقتفي أثر الحرب العراقية، وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال، لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها، وتقاطعت أيضا، حروبٌ عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية، لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت، ولا تزال، دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاتها. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرّس قواعده في مواثيق الأمم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدوّنة حقوق الإنسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في مزيد من الفوضى والعنف، بدل السعي إلى وضع مزيدٍ من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟
قران القومية والرأسمالية
كانت القومية والرأسمالية اللتان ازدهرتا في القرنين التاسع عشر والعشرين أكبر قوتين
وحركتين وعقيدتين ونظامين ساهما، بعد النزعة الإنسانية للقرن السادس عشر، في توليد العالم الجديد، الحي والديناميكي، على أنقاض الماضي التقليدي، البطيء والجامد. وكان لهما الفضل في تحديثه، والوصول إلى ما نسميه اليوم الحداثة أو العالم الحديث. ومن دونهما، لا نعرف كيف كان سيكون عليه مصير العالم.
وبهذا المعنى، كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرةٍ لهم في مواجهة قوانين الطبيعة الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظمٍ اجتماعيةٍ، بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد قروناً طويلة.
أما اليوم فهما تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة، وتشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة، وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطابٍ يتم تجويفه باستمرار، حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الإنسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما تتحملان المسؤولية الرئيسية عن إنتاج الشروخ والتصدّعات المتزايدة التي يكاد من الصعب تصور إمكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الإنسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة، وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها. وبالتالي، تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما. وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه.
والسبب أن القومية التي ولّدت مفهوم الأمة، وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة، وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدوغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لإنتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الإنسانية تقدّما، بالمقارنة مع ما سبق من نظم إقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو إمبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطارٍ لتقسيم العالم الذي وحّدت تطلعاته وطموح شعوبه بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكّم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكلٍ أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.
والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعيةٍ إلى مواطنٍ مشاركٍ في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسّخت سياسات
الأنانية القومية، والاستهتار بمصير الدول والأمم الأخرى ومستقبلها، فبمقدار ما عمّقت الشعور بالمسؤولية لدى القادة المركزيين تجاه أمتهم وشعوبهم، حرمتهم من أي تعاطفٍ أو تفهم لمصالح الشعوب الأخرى، بل جرّدتهم من أي إحساسٍ بالمصائب التي تواجهها، أو المساعدة على حلها، وبرّرت لنفسها جميع المخططات والاستراتيجيات والحيل السياسية والقانونية والأخلاقية التي تشرعن نهب موارد الدول الأخرى والتحكم بمصيرها واستتباعها ووضعها في خدمتها.
وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة، عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها، والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل أن تحتفظ وحدها بالسيطرة العالمية وتضمن أطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها، وتبعد عن نفسها أي منافسةٍ جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارةٍ كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروفٌ استثنائيةٌ ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحوّل هي نفسها أيضا إلى دول قومية إمبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حرّرت المجتمعات، في جزء كبير من المعمورة، ومكّنتها من تقرير مصيرها، والتعبير عن إرادتها، هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفكّكتها عبر الاستعمار وبعده، وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.
أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي، من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عاملٍ في اجتياح الاقتصادات الأخرى، وإغلاق أفق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة، واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوةٍ إمبريالية تتغذّى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجةٍ، وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرّر والسيادة والتنمية الطبيعية.
الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة إمبريالية، أو نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبةٍ، نظام عالمٍ على
المستوى نفسه من الانقسام والتناقض والتبعثر والاستقطاب على كل المستويات، وفي كل الميادين. ولم يحصل أن وجد قبله عالم عرف مستوىً من الثراء والتقدم التقني والعلمي وتجمع القوة وتمركزها، وفي الوقت نفسه اتساع دائرة الفقر والبؤس وهشاشة شروط الحياة وفقدانها أي معنىً عند مليارات البشر، كما يحصل في عالمنا اليوم. وإذا لم تحصل معجزةٌ، واستمر التنافس من دون معايير ولا حدود، واستمر سعي الأمم كل لإنقاذ نفسها من دون سؤال عن مصير الكل العالمي، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وروسيا، ويتجلى في سورية المدمرة، فلن يكون هناك مخرج آخر سوى الانتحار الجماعي، ودفع العالم إلى الجنون والانفجار. فالدينامية التي دفعت الأمم من منطلق المصلحة القومية والأنانية إلى التنافس ومراكمة الموارد والأرباح وتعزيز السيطرة على رأس المال، هي نفسها التي وقفت، منذ قرنين، ولا تزال تقف ضد أي مشروع إنساني جماعي، يهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة والشعوب التي زعزع استقرارها وحطم توازناتها ودمر اقتصاداتها وقوّض مسار تقدمها الاستعمار قبل أن تحول دون بنائها القومي والرأسمالي الهيمنة الدولية أو تحول القومية والرأسمالية إلى إمبريالية عالمية. وتكاد هذه الدول الفقيرة مع تصميم القوى الأكبر على تركها تتخبط في أزماتها ونزاعاتها وحروبها الداخلية والبينية نتيجة بؤسها، تفقد أي أمل بالخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات، لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة والتقدم التقني والعلمي.
وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد، كما هو متوقع، عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة، وتطور المصالح، وغطّى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة، وأخفق في المساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومةٍ سياسيةٍ قانونية، أوجد التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي أصبح من الصعب السيطرة عليها. وفي أحيان كثيرة، كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها، من أجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروبٍ جانبية، أو موازية، يمكن التحكّم بها، بل والاستفادة منها، لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه.
ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وجديدها الحرب السورية التي تكاد تقتفي أثر الحرب العراقية، وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال، لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها، وتقاطعت أيضا، حروبٌ عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية، لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت، ولا تزال، دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاتها. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرّس قواعده في مواثيق الأمم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدوّنة حقوق الإنسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في مزيد من الفوضى والعنف، بدل السعي إلى وضع مزيدٍ من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟
قران القومية والرأسمالية
كانت القومية والرأسمالية اللتان ازدهرتا في القرنين التاسع عشر والعشرين أكبر قوتين
وبهذا المعنى، كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرةٍ لهم في مواجهة قوانين الطبيعة الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظمٍ اجتماعيةٍ، بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد قروناً طويلة.
أما اليوم فهما تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة، وتشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة، وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطابٍ يتم تجويفه باستمرار، حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الإنسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما تتحملان المسؤولية الرئيسية عن إنتاج الشروخ والتصدّعات المتزايدة التي يكاد من الصعب تصور إمكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الإنسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة، وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها. وبالتالي، تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما. وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه.
والسبب أن القومية التي ولّدت مفهوم الأمة، وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة، وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدوغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لإنتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الإنسانية تقدّما، بالمقارنة مع ما سبق من نظم إقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو إمبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطارٍ لتقسيم العالم الذي وحّدت تطلعاته وطموح شعوبه بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكّم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكلٍ أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.
والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعيةٍ إلى مواطنٍ مشاركٍ في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسّخت سياسات
وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة، عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها، والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل أن تحتفظ وحدها بالسيطرة العالمية وتضمن أطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها، وتبعد عن نفسها أي منافسةٍ جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارةٍ كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروفٌ استثنائيةٌ ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحوّل هي نفسها أيضا إلى دول قومية إمبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حرّرت المجتمعات، في جزء كبير من المعمورة، ومكّنتها من تقرير مصيرها، والتعبير عن إرادتها، هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفكّكتها عبر الاستعمار وبعده، وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.
أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي، من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عاملٍ في اجتياح الاقتصادات الأخرى، وإغلاق أفق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة، واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوةٍ إمبريالية تتغذّى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجةٍ، وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرّر والسيادة والتنمية الطبيعية.
الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة إمبريالية، أو نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبةٍ، نظام عالمٍ على