خلافة تلو خلافة..

13 مايو 2017
+ الخط -
قُتل حفيد الخليفة.. في الشهر الماضي، احتفت صفحاتٌ جهاديةٌ سودانية بخبر استشهاد قيادي جبهة النصرة، أبو أنس السوداني، لنعرف للمرة الأولى أن اسمه محمد حسن هلال التعايشي، حفيد الخليفة عبدالله التعايشي الذي حكم السودان خلفاً للمهدي المنتظر شخصياً.
تبدأ القصة حوالي عام 1880، حين أعلن محمد المهدي بن عبدالله بن فحل أنه المهدي المنتظر، ودعا السودانيين للتوحد خلفه لتحرير بلادهم. نشر أنصاره بسرعة "منشور الدعوة". أقنع آلافاً من أتباعه بأنه يتصل بالرسول في اليقظة، لا في المنام، وأن الرسول أخبره أن من لا يؤمن بمهديته "كفر بالله ورسوله"، وضمن لمن يُقتل معه الخلود في الجنة، وكانت النتيجة انتصارات باهرة تُوّجت بالاستيلاء على الخرطوم عام 1885، وقتل الجنرال تشارلز غوردون الحاكم العام البريطاني للسودان.
لكن المهدي توفي في عام استعادة الخرطوم. وهنا يأتي دور عبدالله التعايشي الذي كان المهدي اختاره في حياته خليفته الأول، وأعلن لأنصاره عصمته بدوره، "الخليفة عبد الله هو مني، وأنا منه، وقد أشار سيد الوجود، فتأدّبوا معه كتأدّبكم معي، وسلموا إليه ظاهراً وباطناً، كتسليمكم لي وصدّقوه في قوله، ولا تتهموه في فعله، فجميع ما يفعله بأمر من النبي، أو بإذن منا"
حكم التعايشي السودان 14 عاماً، تخللتها مغامراتٌ عديدةٌ لتوسيع الخلافة، حارب مملكة الحبشة، ودعا الملكة فيكتوريا إلى الإسلام، وجهز جيشاً حاول غزو مصر، حتى انتهى حكمه بسحق جيشه على يد قوة مصريةٍ إنكليزية مشتركة، وقُتل في معركة أم دبيكارت عام 1899.
ظاهرة إعلان المهدية تكررت مراراً في التاريخ الإسلامي، ولعل من أشهرها تأسيس دولة الموحدين في المغرب، بعد اجتياحهم دولة المرابطين، بسبب دعوة بن تومرت الزعيم القبلي الذي أقنعهم أنه المهدي المنتظر. كما تكرّرت ظاهرة إعلان الخلفاء العبثيين في العصر الحديث، حدثت في الجزائر في أثناء العشرية السوداء، وأيضاً في باكستان في أثناء الحرب الأفغانية.
من التسطيح إلى مسألة الاكتفاء بالسخرية من هؤلاء الحمقى الذين يتبعون سراباً، كما أنه من الخطأ الاكتفاء بتوجيه سهام النقد للتراث الإسلامي فقط. حقاً لا يمكن قراءة "داعش" في معزلٍ عن النصوص والتراث، وإغفال ذلك مغالطةٌ وتهرّب. لكن في المقابل، لا يمكن أبداً بالقدر نفسه بالضبط تجاهل الظروف السياسية والاجتماعية.
اليوم، نعرف أن "الثورة المهدية" كانت، في جوهرها، ردّاً على مظالم هائلة، عانى منها السودانيون من الحكام المحتلين. لذلك، لم تستقر الأوضاع بعد سقوط الدولة، بل شهدت السودان عشرات الثورات وحركات المقاومة للاحتلال الإنكليزي بعدها، بضعها على أسسٍ قبائلية بحتة، وبعضها كانت فيه محاولات دينية، كإعلان أحدهم أنه المسيح الذي نزل بعد المهدي!
لم يكن تنظيم "داعش" سيظهر أبداً، لولا ما تعرّض العرب السنة من مظالم. كان "الصحوات" قد هزموا تنظيم القاعدة بالفعل في العراق، وبدلاً من مكافأتهم ودمجهم بقوات الأمن، خان رئيس الوزراء، نوري المالكي، وعوده كلها، ثم في 2011 تم اقتحام ساحات الاعتصامات السلمية في المدن السنية، وسقط عشرات القتلى. لهذا فقط وصلنا إلى مشهد سيطرة 800 مقاتل من "داعش" على مدينة الموصل المليونية التي تبخر منها خلال ساعات 30 ألف جندي!
الخلافة أو المهدية، أو حتى القومية العربية في أثناء بعثها في الخمسينات، كلها تحمل لأنصارها حلماً من مخيلة تاريخية، يتمنون دولةً قويةً ذات حدود امبراطورية، على رأسها حاكم قوي بصلاحيات مطلقة، لكنه عادل وعظيم، فسيستخدمها للخير فقط، وربما يدفع بالجيش لفتح عمورية، لو استغاثت امرأة عربية!
إذا كنا نطالب الإسلاميين بتجديد أفكارهم، ومراجعة كتب التراث، فإننا نطالب أيضاً القوى الديمقراطية بالاشتباك المباشر مع الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيما يحدث، ومحاولة تقديم بدائل واضحة، تشتبك على الأرض، وتطرح نفسها مشاريع مختلفة عن الأحلام التراثية، وأيضاً عن تجاربنا مع الأحلام الحداثية المستبدة الفاشلة. من يمنح الناس خيالاً مختلفاً؟
بدون خطواتٍ فعالةٍ من الطرفين، يبقى تاريخنا يعيد نفسه في دوائر عبثية، وربما سنواتٍ نسمع عن مقتل حفيد الخليفة السابق البغدادي، بينما يقاتل في جيش خليفة جديد!
ستتكرّر دورات الصعود السريع والانهيار الأسرع، وسيظهر خليفة تلو آخر، ويُبعث مهدي تلو آخر، أو دكتاتور عسكري تلو آخر، وسيجدون دائماً بانتظارهم الملايين ممن يرغبون بالتصديق أو يحتاجونه...
دلالات