لا توقظوا الأحياء

25 ابريل 2017

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
أعاد إلى ذاكرتي مشهد الجنود الأردنيين الثلاثة، الذين عُثر على رفاتهم في القدس قبل شهر، وأعيدوا إلى بلادهم بمراسم عسكرية، مشهدًا آخر يتعلق بالجندي الياباني الذي عُثر عليه قبل سنوات، هائمًا في إحدى الغابات نحو ربع قرن، بعد أن رفض الاستسلام لأميركا، وقرّر أن يظل مقاومًا حتى الرمق الأخير.
ما يجمع هؤلاء الجنود "المجهولين" علاقةٌ لا يعرفها أحدٌ سواهم، ويصعب على (المعروفين) من أمثالنا أن يستنبطوا أبجدياتها المختلطة بالأحلام العصيّة على الكسر، ربما لأن عظمة الجندي المجهول تكمن في أن يظلّ مجهولاً، لأنه اختار بقعةً سرمديةً بمحض إرادته، يزرع فيها حلمه المنتزع من براثن (الأمر الواقع). لذا، فإن أكثر ما يمقته أولئك المجهولون أن يصبحوا (معروفين)، وأن ينبش منطقتهم أحدٌ من خارج عالمهم، ويُفسد عليهم أحلامهم التي فرّوا بها.
ربما لهذا، سيكون ذلك الجندي الياباني مكتئبًا اليوم؛ لأن هناك من (اكتشفه)، وصدمه بواقع أن بلاده هُزمت على يدي ماك آرثر الذي هبط بطائرته في مطار طوكيو، حاملاً وثيقة استسلام ليوقع عليها إمبراطور اليابان.
كذلك، وللسبب ذاته، أشعر بحزن الجنود الأردنيين الثلاثة الذين انتزع رفاتهم من تراب القدس، ليعادوا إلى بلادهم بمراسم عسكرية، تحت شعارات "التكريم"، على الرغم من أنهم اختاروا تلك البقعة السرمدية المجهولة بالنسبة لنا، ملاذًا لهم؛ لأنهم كانوا يرفضون الاعتراف بواقع أن ثلاثة بلاد عربية، بما فيها بلادُهم، هزمتها نكسة يوينو/ حزيران 1967، وقد يتفاقم حزنهم أكثر، إن شاهدوا علم إسرائيل يرفرف في سماء عواصم عربية راية استسلام زرقاء.
كان ينبغي أن ندرك، ونحن ننبش القبور، أن ثمّة فئة من "الموتى الأحياء" ترى موتها في الحياة وليس في الموت، وأن ما يميتها حقًّا هو إسباغ لقب "البطولة" عليها، خصوصًا إذا كانت مواصفات البطولة الجديدة، مقترنةً بمصائر لا يعترفون بها، فالجندي الياباني الذي كان يدير معاركه وحيدًا في تلك الغابة المجهولة، يقاتل وحده، ويُجهز على الغزاة بمفرده، ويحصي قتلاهم، ويتخيّل أن أقرانه من الجنود الآخرين يفعلون الآن مثله، كلٌّ في غابته، هو ذاته الجندي الذي لم يتغلغل في قاموسه، يومًا، مصطلح "الاستسلام"، غير أن "هادم لذة الموت"، أبى إلا أن يوقظه من موته الجميل، ويصدمه بواقع الراية البيضاء المرفوعة في سماء طوكيو، لينعكس الأمر، وتغدو بلاده وكل ما حوله هو "المجهول" الذي يصفّق لـ"المعلوم"، على افتراض حسن النية، لأن الواقع يقول إن هذا الجندي، بعدما انتزعت عنه هالة البطولة، سيغدو محط سخرية أجيال جديدة، تعجب من "حلمه" الأرعن، وتأخذ عليه فراره من (الأمر الواقع).
وعلى الغرار ذاته، تحرّك "هادم لذّات الموت" لينبش جنة الجنود الأردنيين الثلاثة، قرب "الأقصى"، والذين آثروا أن يبقوا هناك على "خط النار"، لأنه المنطقة الأحبّ إليهم، في مواجهة الغزاة، وربما اعتقدوا أن الجنود العرب الآخرين يخوضون حروبًا مثيلة، على خطوط نار أخرى، مع العدو ذاته، غير أننا أيقظناهم على "خطوطٍ" مغايرةٍ لما عرفوه، ودفعوا حياتهم ثمنًا له، فأصبحنا بالنسبة لهم "عربًا مجهولين"، خارج التاريخ والجغرافيا، قد نصفّق لهم قليلًا، غير أن الأغلبية من أصحاب (الأمر الواقع) سينظرون إليهم باستغراب، ويتساءلون لماذا لم يستسلم هؤلاء مثلنا؟
ليتنا نترك هؤلاء "المجهولين" وشأنهم، في مناطق الحلم التي اختاروها بأنفسهم، فهم لا يحتاجون إلى تكريمٍ منا، بل ربما نحن من يحتاج إلى تكريمهم لنا، وإلى اعترافهم بنا، لأننا "المجهولون" الحقيقيون في هذا الزمن، وسنكون ممتنين لو أنهم نسبونا إليهم، واعترفوا بأبوتنا، أو بنوتنا لهم، عندها فقط قد يصعد الحلم الغريق إلى أحداقنا، ليحفن قبضة أمل.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.