مرحى للاستعمار

18 ابريل 2017
+ الخط -
قال أحدهم، تعقيبًا على الضربة الأميركية لقاعدة الشغور السورية: "لو كانت الولايات المتحدة جاءت بمفرزةٍ واحدةٍ من أفراد شرطتها، لاحتلت القاعدة، وكفت نفسها عناء تدميرها بتسعة وخمسين صاروخ توماهوك، كبّدتها ملايين الدولارات".
استوقفني هذا التعليق العربي الساخر، وشعرت أنه لا يجانب الصواب، لكنني كنت أودّ لو عمّم المعلق مقولته، لتشمل الأوطان العربية، في هذه المرحلة التي لن يجد المستعمر فرصة سانحة مثلها للانقضاض على الأمة كلها، من محيطها إلى خليحها، وإعادة استعمارها، من دون مقاومة تذكر.
ولئن اتهمني أحدهم بالتشاؤم، لقلبت له الكأس الفارغة كلها، ليتأكد من خلوها من المياه، ولقلت له إن مصدر تشاؤمي يعود إلى أكثر من 14 عامًا، يوم سقوط بغداد بأيدي "اليانكي"، ذلك أن احتلال العراق الذي كان يصنف بأنه من أقوى الدول العربية تسليحًا وخبرةً قتالية، لم يستغرق غير أيام معدودات ليرفع الراية البيضاء.
ولو قيل لي إن مثالًا واحدًا لا يكفي للتعميم؛ لأحلته إلى مرحلةٍ عربيةٍ مماثلةٍ قبل قرون، تناوب فيها المغول والصليبيون على احتلال الأمصار العربية، ولم يتكبدوا فيها سوى عناء السفر ونقل الأمتعة، أما المدن فكانت تتساقط كذبابٍ هرم في أيديهم، والشعوب تستقبلهم بحفاوة من كان ينتظر مثل هذا الغزو، كخلاص من بؤس أحوالهم ومرارة عيشهم، تحت وطأة حكام الطوائف وجوْرهم.
تتماثل المرحلتان، في الوقت الراهن، وتكادان تتطابقان، بفضل ملوك طوائف جدد، أخرجوا الشعوب عن طورها، وجعلوها أكثر "قابليةً للاستعمار"، على حد تعبير مالك بن نبي الذي فاته أن يضيف أن الاستعمار، في أحايين كثيرة، يكون مطلبًا شعبيًّا، وليس مجرد "قابليةً"، لأن بديله، الاستقلال، أزيد سوءًا، وأثخن جرحًا، في أوطانٍ مسدودة الآفاق، ومفتوحة الأعماق، لاستقبال الجثث.
لم يسقط العراق بأيدي الأميركان؛ لأن شعبه ضعيف، ولا بسبب خيانات من الحلقة الضيقة المحيطة بصدام حسين، ولا لأسبابٍ طائفية، كما يرد في بعض أدبيات المحللين، بل لأن الشعب، في وعيه ولاوعيه، كان يريد ذلك، بعد أن أوصله الاستبداد إلى درجةٍ أدنى من حضيض الاستعمار ذاته، فراح يبحث عن أي خلاص، ولو كان التحالف مع "الشيطان الأكبر".
وعلى المنوال نفسه، لا تبدو الشعوب العربية الأخرى أحسن حالًا من الشعب العراقي، وأراهن أنها ستتسابق لتسليم مفاتيح أوطانها، لأي مستعمرٍ جديد، لتنفض عن أجسادها دبق عقود من الكبت والاستبداد، ولأنها تعلم، جيدًا، أنها في واقع الأمر مستعمرة بأذناب الاستعمار، ممثلين بحكامها، فيكون لسان حالها: "لماذا لا يحكمنا رأس الاستعمار ذاته، عوضًا عن الذنب؟".
بعيدًا عن "بلاد العرب أوطاني"، وسائر الصور الرومانسية التي أتخمنا بها حكامنا وأساتذتنا، منذ طفولتنا، عن الوطن وترابه، علينا أن نعترف بأن الأوطان العربية لم تعد ملكًا لشعوبها، بل لمستبدّيها وطغاتها، وبأن الولاء والانتماء هما، في حقيقتهما، ولاء للزعيم فقط، مالك الوطن، وثرواته، وشعبه، وراسم مصيره.. أما الشعوب، فحمولاتٌ زائدةٌ لا تنتظر غير "حسن الختام"، بعد أن افتقدت "حسن البدايات".
ولقد أثبتت موجة الربيع العربي وحدانية الحاكم العربي وفردانيته، وهو يبيد شعبه بأكمله، كما يفعل بشار الأسد الذي لا يضيره لو طرد نصف الشعب خارج "وطنه"، وسحق النصف الآخر بالكيميائي والفوسفوري والنابالم، ففي قناعته أنه يتحرّك ضمن مناطق "نفوذه" التي تشمل "المزرعة والعبيد" معًا.
ولأن الشعوب اختبرت بلحمها استحالة تنحية مثل هؤلاء الحكام بالحسنى وأساليب التظاهر السلمية، تجد نفسها مهيأة لقبول عونٍ خارجي يطيح هؤلاء الطغاة، حتى لو كان الاستعمار ذاته، وفي ذهنها دول كبيرة مثل أستراليا التي آثر شعبها البقاء في ظل التاج البريطاني، عقب استفتاء أجري لمعرفة رأيه في الاستقلال عن هذا التاج.
حاصل القول: لئن بقيت الحال على ما هي عليه، فلن يكون بعيدًا ذلك اليوم الذي تخرج فيه تظاهراتٌ عربيةٌ بشعار جديد قوامه: "مرحى للاستعمار".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.