سائق الجرّافة المثابر

06 فبراير 2017

من شوارع جبل اللويبدة.. (صفحة اللويبدة "فيسبوك")

+ الخط -
أطل من الشرفة على مقربةٍ منها، الحفّارة تبقر بطن الأرض بلا رأفة، وتنقر رأسي من دون انقطاع. أحقد على سائق الجرافة المثابر الذي يذرع المكان جيئة وذهابا، يوجّه الرأس المعدنية المدببة الضخمة، يغرزها في عمق الأرض، يخيّل إليها أنها تئن وجعاً، تربة حمراء خصبة تخرج من الجوف، فتتسع الحفرة. أصب عليه جام غضبي، ألا ينتابه تأنيب ضمير جرّاء ما يقوم به من عدوانٍ آثم. أتذكّر حكايا أبي عن غابات عمان، وأحراشها الكثيفة والحيوانات المفترسة التي كانوا يشاهدونها صغاراً، قبل الغزو العمراني الذي اكتسحها من كل صوب. أعود إلى الشقة، أواصل تذمّري من تلك الضوضاء الرهيبة، المستوطنة داخل رأسي، فلا تبيح لي الاستمتاع بطقوس الصباح. صوت فيروز يغني لي من دون سائر الناس.
فجأةً، ساد صمتٌ عميق، سيطر عليّ فرحٌ كبير، مددت رأسي بحذرٍ وترقب. شاهدت السائق يترجل من الجرّافة، يمسح العرق المتصبب عن جبينه، ينضم إلى بقية العمال الوافدين، يفترشون الأرض. يفتح أحدهم علب الحمص والفول يتقاسمون حبات الفلافل الساخنة، وحبات البندورة ورؤوس البصل. يتلذذون بإفطارهم، فيما يصبّ أحدهم كؤوس الشاي الثقيل. يتلاشى غضبي على سائق الجرافة، يتحول من مصدر إزعاج كبير إلى مجرد رجل يشرب الشاي، ويسعى إلى إطعام أولاده رزقاً حلالاً. أصبّ لعناتي على الجار الجشع الذي دمّر، برمشة عين، البناء الحجري البسيط الجميل المحاط بأشجار زيتون، وقرّر أن يقيم على أنقاضه إسكانا عصريا جديدا. شقق متقابلة يبيعها بأثمان خيالية، ويكفل لنفسه، ولذريته من بعده، رغد العيش، غير مكترثٍ بأن الإسكان اللعين سوف يحجب الرؤية عن شرفتي.
يتفرّق العمال، كل يقوم بعمل ما. يتوجه سائق الجرافة إلى استكمال المهام الكئيبة المتعلقة بعمله. أغادر البيت على وجه السرعة، ألوذ بشوارع جبل اللويبدة الذي يعج بالطلاب من جنسيات مختلفة، يستأجرون بيوت الجبل القديمة العريقة، سعداء بتجربة الاستشراق التي تبيح لهم اختبار أنماط حياة مختلفة. يزدحمون في المقاهي والمطاعم المتناثرة على امتداد شارع الشريعة، وفي حارات الجبل القديم الحداثوي وأزقته، حيث روح الشباب فرضت فضاء ثقافيا منفتحاً، وفسحة حريةٍ في عاصمةٍ، باتت تميل إلى التّزمت والانغلاق.
أتجوّل بارتياح تحت الشمس، على الرغم من برودة الجو.. أقترب من مستشفى لوزميلا. هنا في قسم الطوارئ التابع للمستشفى العريق، لفظ مؤنس الرزاز أنفاسه الأخيرة، مودّعا عمّان التي أحب، وكتب فيها أهم الأعمال الروائية. أهبط درج الكلحة، ثمّة رسوماتٌ وقصائد على الجدران . في مقهى ذكريات البلد نوافذ زجاجية ملوّنة مطلة على شرفةٍ مزدحمةٍ بأصصٍ مزروعةٍ بالورود. احتفال دائم بإيقاع الحياة. أصادف صديقا هاربا من الدوام، يقول لي: تبدين متعبةً، أردّ بغضب: استيقظت فجرا على صوت جرّافةٍ. مفتتح غير جميل لنهار غير واعد.
مطعم القدس قبالتي تماماً، الرقاب المحشية طبق أسطوري يعدّونه ببراعة. قلت للمعلم: لماذا لا نسمي الطبق أعناقاً محشية، وقعُها أجمل على السمع. يضحك، ويقول "إنتو الكتاب كل شي إلكو عجيب". يقدّم لي صحن شوربة عدس. لكني لم أطلب عدس، يا معلم. يقول بحزم: "إشربي، العدس مفيد في هذا البرد، تبدين شاحبة اليوم". يغادر قبل أن أحدّثه عن الجرافة. أتناول غدائي بمتعة. يروق لي هذا المكان العتيق، تذكّرني أطباقه الدسمة بطبيخ الأمهات الذي يبعث على الإحساس بالأمان والرضا. أتجوّل في سوق السكر. أطرب لأصوات الباعة ورائحة البهارات وازدحام الأقدام، وصوت الأذان ينطلق شجيا من مسجد الحسيني. أعرّج على كشك أبو علي، بائع الكتب الأكثر شهرةً في قلب عمان، الرجل الجميل الذي يجمع على محبته الكثيرون. ألبّي دعوته إلى فنجان قهوة مطيّبة بالهيل والحكايات. أتذوّق كنافة حبيبة، بشقيها الناعم والخشن، فتصبح الحياة أكثر حلاوةً، ولا يعود لصوت الجرّافة اللعينة أي أثر في رأسي.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.