تهريب الهواتف... معركة جديدة بين الأسرى وإسرائيل

05 فبراير 2017

سجن تلموند الإسرائيلي بين طولكرم ونتانيا (16/10/2011/Getty)

+ الخط -
تعيش المعتقلات الإسرائيلية حالة من الغليان منذ أسابيع، في أثناء حملات تفتيش ودهم لأقسام الأسرى الفلسطينيين، تقوم بها شرطة مصلحة السجون الإسرائيلية، بحجة البحث عن هواتف محمولة دخلت الزنازين والأقسام في المعتقلات... تسلط السطور التالية الضوء على الظاهرة، فكم من الجوّالات يتمّ تهريبها إلى الأسرى، ولماذا يستخدمونها، وهل يتمّ التّخطيط من خلالها لعمليّات مسلّحة، وكيف تدير المنظّمات الفلسطينيّة وإسرائيل حرب الهواتف المحمولة داخل السجون؟

محاولات مستمرة
كشف اتهام إسرائيل في ديسمبر/ كانون الأول 2016 النائب العربيّ في الكنيست، باسل غطّاس، بتهريب هواتف محمولة إلى الأسرى الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة في أثناء زيارته سجن النقب، عن عنوان جديد للمواجهة بين الأسرى ومصلحة السجون، حيث تتّهم إسرائيل غطّاس بأنّه استغل حصانته البرلمانيّة، وسلّم الأسيرين، وليد دقّة وباسل البزرة، مغلّفاً مغلقاً يحتوي على 12 هاتفاً محمولاً.
تعتبر عمليّة إدخال الهواتف الخلويّة إلى الأسرى داخل المعتقلات الإسرائيليّة حسّاسة جدّاً، وتحتاج تكتيكات معقّدة، خشية الوقوع في القبضة الإسرائيليّة، وتعرّض كثيرون من ذوي الأسرى للاعتقال، خلال السنوات الأخيرة، والحرمان من الزيارة، عقب اكتشاف تهريبهم أجهزة خلويّة بين ملابسهم إلى أبنائهم المعتقلين، وكانت بعض هذه المحاولات تنجح، وتفشل أخرى، حين يتم اكتشافها من الحراس الإسرائيليين قبل تسليمها للأسرى.
وخلال شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول 2016، ضبطت مصلحة
السجون الإسرائيلية أربع محاولات تهريب هواتف داخل السجون. الأولى حين ضبطت هاتفا خلويا مع محامٍ، كان ينوي تهريبه إلى أسيرٍ في أثناء زيارته، والثانية عندما جرى اعتقال عناصر من الشرطة الإسرائيلية لموافقتهم على تهريب هواتف إلى أحد السجون، مقابل مبلغ مالي، والثالثة حين ضبطت هواتف في غرفة الزيارة في أحد السجون، جرى إخفاؤها في زاوية شباك الزيارة، والرابعة حين أثار أحد الأسرى شكوك عناصر شرطة السجون، ما دفعهم إلى تفتيشه، وعثروا على هاتف قام بتهريبه في أثناء الزيارة.
وفي مايو/ أيار 2013، أصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية قرارا باعتقال وزير شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطيني، عيسى قراقع، بتهمة تهريب هواتف خلوية للأسرى، لكنه اعتبر الاتهام جزءاً من الهجمة الإسرائيلية الشرسة ضد الأسرى، لكن السلطات الإسرائيلية لم تعتقل الوزير على هذه الخلفية. ففي 2004، اعتقلت مصلحة السجون المحامي الفلسطيني، غسان علي، من القدس، بتهمة تهريب 50 جهاز هاتف جوال لموكليه من الأسرى الفلسطينيين في سجن عوفر قرب رام الله، واعتاد على ربط الأجهزة الجوالة بجسمه تحت ملابسه.
وتستخدم مصلحة السجون الإسرائيليّة أشدّ العقوبات مع الأسرى، كالعزل والضرب، إن اكتشفت من خلال حملات الدهم والتفتيش المفاجئة التي تنفّذها في أقسامهم وغرفهم، أجهزة اتّصالات، بزعم استخدامها للاتّصال بين الأسرى والمنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة، لتنفيذ عمليّات معادية لإسرائيل خارج السجون الإسرائيلية.
وقد تمكن كاتب السطور من الاتّصال بـ "م . ن"، وهو أحد المعتقلين داخل سجن الدامون الإسرائيليّ، وما زال معتقلاً، ويملك هاتفاً داخل السجن، فرفض البوح باسمه، خشية تعرّضه للعقوبات الإسرائيليّة، وقال "يستخدم الأسرى الهاتف الخلويّ للاتّصال بالعالم الخارجيّ والعائلة، لاسيّما الأسرى الذين يقضون سنواتٍ طويلة في الأسر، ومن يحرمون من زيارة الأهل، بما يتناقض مع مزاعم المخابرات الإسرائيليّة التي تربط هذه الحاجة الإنسانية البحتة بذرائع أمنيّة".

صراع الأدمغة
قد لا تكون حالة غطّاس الأولى من نوعها لتهريب الجوّالات، إذ أحبطت مصلحة السجون
الإسرائيليّة، في سبتمبر/ أيلول، محاولة فلسطينيين عاديين تهريب هواتف خلويّة في سجن إيشل في بئر السبع. مع العلم أن أسرى فلسطينيين عديدين يجرون اتصالات هاتفية مع بعض الإذاعات المحلية الفلسطينية، ما يتطلب إعلان حالة استنفار قصوى، يشهدها القسم الذي يوجد فيه الأسير، لكي يجري مكالمته التي لا تستغرق سوى دقائق، سواء مع أهله أو أصدقائه، أو المشاركة في برامج الإذاعات.
ويُهرّب الأشخاص المعنيون الهواتف النقالة بتفكيكها، وتهريب لوحاتها الإلكترونية فقط، لكي يستخدمها الأسرى داخل السجن، بعد إضافة السماعات والبطاريات إليها، لأن إخفاء هذه اللوحات أسهل من إخفاء الهواتف، حيث لا يقتصر "صراع الأدمغة" بين الأسرى وسجانيهم على تهريب الهواتف إلى داخل السجن، وإنما إخفاء هذه الهواتف لاستخدامها أطول فترة ممكنة، وعدم انكشافها.
وقد خصّصت مصلحة السجون الإسرائيلية وحدةً أطلق عليها اسم "درور التقنية"، تتمتع بمهارة عالية في البحث عن الهواتف داخل السجن، وتفتيش كل زاوية فيه، وتستخدم هذه الوحدة معدات وأجهزة خاصة للبحث في جدران غرف الأسرى، وأرضياتها وأسقفها، وتفكيك الأجهزة الكهربائية التي يستخدمها الأسرى، بحثا عن الهواتف، حال شكّهم بوجودها، وهذا قد يستمر يوما كاملا داخل غرفة واحدة للأسرى، كما أن أفرادا مختصين من الوحدة الإسرائيلية يتابعون نظرات الأسير الذي يبقى في الغرفة لحظة التفتيش، للبحث في الأماكن التي ينظر إليها الأسير، وذلك "صراع أدمغة وحرب حقيقية".
وعلى الرغم من ذلك، نجح الأسرى في تهريب هواتف حديثة، مثل الآيفون وأجهزة الجيل الثالث، وأخرى كالساعات، ويستخدمونها في أمور أخرى غير الاتصال الهاتفي، مثل تصفح الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
مع أن معركة تجري بين الأسرى ومصلحة السجون الإسرائيلية لإخفاء الهواتف التي يستخدمونها، عبر كشف طرقٍ عديدة، منها تجهيز مخبأ في جدار السجن بعد حفره، وإنشاء باب له بطريقة فنية، ما قد يستغرق أسبوعين باستخدام مسمار أو برغي.
كما تمكن الأسرى من إخفاء هواتفهم داخل علب المعلبات بعد فتحها وإغلاقها بطريقة فنية، وإنشاء مخبأ في أسفل هذه العلبة، مع وضع ثقل المادة الأصلية التي تحتويها العلبة لتظهر طبيعية.
واللاّفت أنّ السلطات الإسرائيليّة تسمح للسجناء الجنائيّين اليهود باستخدام الهواتف داخل السجون للاتّصال بذويهم، ما تحظره على الأسرى الفلسطينيّين، خصوصاً مع زيادة أعدادهم، وقلّة عدد الزيارات العائليّة، بسبب إغلاق الأراضي الفلسطينيّة أياماً بين حين وآخر، إما بسبب تدهور الوضع الأمني في الأراضي الفلسطينية، أو الأعياد اليهودية، حيث تمنع السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من دخول إسرائيل، بما في ذلك زيارة أبنائهم في السجون الإسرائيلية.
يمكن القول إن تهريب الجوّالات إلى السجون الإسرائيليّة بدأه الأسرى في عام 2001، في معتقلات النقب، الدامون، نفحة، عوفر، ودافعه إنسانيّ، ومزاعم إسرائيل أنّ الأسرى يستخدمون الجوّالات للإعداد لعمليّات مسلّحة غير حقيقيّة، فالأسرى يعرفون خطورة ذلك، وأيّ هاتف في السجن تراقبه المخابرات الإسرائيليّة، ويعلمون ماذا ينتظرهم من عقوبات إسرائيليّة إن ثبتت التهمة عليهم.
وقد بثت القناة الإسرائيليّة الثانية في ديسمبر/ كانون الثاني تقريراً عن مكافحة مصلحة السجون الإسرائيليّة تهريب الجوّالات إلى الأسرى، وزعمت أنّ المخابرات الإسرائيليّة تضع يدها سنويّاً على مائتي هاتف محمول مهرّب. وزعم مدير سجن عوفر (قرب رام الله)، عيران فايير، أنّ الأسرى يدفعون مبالغ طائلة تصل إلى 15 ألف شيكل (4 آلاف دولار)، لتهريب الجوالات إلى داخل السجون، ويستخدمها بعضهم للتنسيق لتنفيذ عمليّات مسلّحة خارج السجون، على الرغم من الإجراءات الأمنيّة التي نقوم بها للتشويش على الاتّصالات.

استخدامات إنسانية
يمكن القول إن تهريب الهواتف إلى السجون الإسرائيليّة ضروريّ للأسرى المحرومين من
الزيارات العائليّة، والموجودين في أقسام العزل مدداً طويلة، وعددهم ألف أسير من أصل 7 آلاف أسير، وما تروّجه المخابرات الإسرائيليّة ليس دقيقاً عن استخدام الأسرى الجوّالات لتنفيذ عمليّات مسلّحة، فمصلحة السجون تنفّذ غارات دوريّة على الزنازين لضبط الجوّالات.
يبدو الاستخدام الأكبر من الأسرى الفلسطينيين للهواتف المهربة داخل السجون الإسرائيلية للأغراض الإنسانية والتواصل العائلي، على الرغم من وجود حالات قليلة، لا يعرف عددها، استخدم فيها أسرى قلائل الهواتف للاتصال برفاقهم خارج السجون لتنفيذ هجمات ضد إسرائيل خارج السجون، كما ذكر ذلك الأسير الفلسطيني المحرّر، عبد الرؤوف إنجاص، الذي أطلق سراحه عام 2011 ضمن صفقة التبادل بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل.
فيما تحدثت الأوساط الأمنية الإسرائيلية عن أنّ تهريب الهواتف الخلويّة إلى الأسرى يتمّ بإخفائها تحت ملابس النساء والأطفال، ووضعها في فوط الأطفال الرضع، وعبر المحامين في أثناء الزيارات، ومن خلال أفراد شرطة السجون برشوتهم من الأسرى، ويتمّ استخدام الهاتف للتواصل بين الأسرى وعائلاتهم، والقيام بعمليّات مسلّحة ضد إسرائيل، وذلك كله على حد مزاعم المخابرات الإسرائيلية.
يمكن القول إن غضب إسرائيل من تهريب الجوّالات باعتبار ذلك اختراقا أمنيّا من الأسرى لمنطقة تحت سيطرتها، وهي السجون، وعلى الرغم من أنّ الاستخدام الشائع للهواتف داخل السجون يتعلّق بأهداف عائليّة واتّصالات إنسانيّة. لكنّ أفراداً من الخلايا الفلسطينيّة المسلّحة تلقّوا تعليمات فرديّة من بعض الأسرى داخل السجون، من دون موافقة قيادات الفصائل الفلسطينية المعتقلين في السجون الإسرائيلية على هذه الاتّصالات، إذ ترفض استخدام هذه الهواتف للأغراض الأمنية والعسكرية، بل تحصرها في الاستخدامات الإنسانية والعائلية.
وقد حظي موضوع تهريب الهواتف المحمولة إلى الأسرى في السجون بنقاشات الفلسطينيّين خلال الأيّام القليلة الماضية، بين من اعتبره عملاً أصاب إسرائيل بالجنون، لأنّه اخترق إجراءاتها الأمنيّة، ومن رأى في تهريبها مساهمةً في معركة حيويّة وإنسانيّة للأسرى.
يعتبر تهريب الجوّالات داخل السجون معركة إرادات بين الأسرى والسجّانين، فإدخالها يعتبر تحديّاً أمنيّاً، والحفاظ عليها داخل الغرف والزنازين معضلة أعقد، والعقوبات الإسرائيليّة على الأسرى في حال اكتشافها شديدة جدّاً، وكلّما اكتشف السجّانون طريقة للتّهريب أو إخفاء الجوّالات، ابتكر الأسرى طريقةً جديدة، في معركةٍ لا تنتهي.
ومن القصص المألوفة بين الأسرى، أنّ أحدهم رافق والدته المريضة قبيل إجراء عمليّة جراحيّة بواسطة الهاتف، وأسيراً آخر تابع حفل زفاف شقيقه، وثالثاً شارك في جنازة، ورابعاً ساعد بحلّ مشكلة عائلية، وآخرين يجرون أحاديث رومانسيّة مع زوجاتهم.
الجدير بالذكر أن هناك لاقطا هوائيّا داخل السجون الإسرائيلية لكشف المكالمات، فإسرائيل تتنصّت على مكالمات الأسرى، ومن بين مئات الهواتف المهرّبة، فإنّ عدد الهواتف المستخدمة لأهداف أمنيّة قليل، والادعاء أنّ الهواتف لدى الأسرى خطر أمنيّ على إسرائيل كلام فارغ، لأنّ الأغلبيّة الساحقة تريد التواصل مع البيت، بسبب قيود إسرائيل على زيارات الأسرى.
أخيراً، لا يبدو أنّ الأسرى سيتوقّفون عن تهريب الجوّالات داخل السجون، فهي أنبوب الأوكسجين الذي يوصلهم بالعالم الخارجيّ، وقد تُحسن إسرائيل صنعاً إن اتّفقت معهم على الاتصال بذويهم عبر هواتف أرضيّة خاضعة لمراقبة الأمن الإسرائيليّ... فربّما هذا الحل الأمنيّ الوحيد.
1CF9A682-2FCA-4B8A-A47C-169C2393C291
عدنان أبو عامر

كاتب وباحث فلسطيني، دكتوراة في التاريخ السياسي من جامعة دمشق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات.