قدرات سورية معطلة

18 نوفمبر 2017
+ الخط -
بَيْن الظواهر الأكثر لفتاً لأنظار متابعي الثورة السورية ظاهرة مقلقة إلى أبعد الحدود، تتعلق بمحدودية القوى السورية التي تستخدمها الثورة، في ظل محدودية البنية المؤسسية لهيئاتها السياسية التمثيلية، وانفلاش تنظيماتها العسكرية، وتلك العاملة في حقل المجتمع المدني، ومحليتها وكثرة أعدادها التي تؤكد عجز الثورة عن بناء مؤسسات موحدة، تؤطر وتغطي نشاطاً سياسياً وعسكرياً منظماً، ووطنياً وشعبياً، تدير باقتدار علاقاتها الداخلية ومع السوريين، وتخدمهم من خلال أكثر طرق العمل العام وأساليبه فاعلية ونجاحاً.
بالأصل، لا يعود الافتقار شبه التام للبنى المؤسسية إلى عزوف السوريين عن الثورة، أو عدم مشاركتهم فيها، بل يرجع إلى ما صار يشوب سلوكهم من ميلٍ إلى الفردية، والتفلت من الانضباط، كظاهرة غدت ضرباً من المرض المجتمعي والسياسي، فلا عجبَ أن لا "تَمُون" المؤسسات القليلة القائمة عليهم، ولا يسعوا إلى الانخراط من جانبهم في مؤسساتٍ فاعلةٍ حقاً يصنعونها هم أنفسهم. ولا عجب أيضاً أن تسود علاقاتهم شحناتٌ وافرة من العشوائية والارتجال، تلعب دوراً مهماً في تعزيز ما يبدو أنه نفورٌ من العمل المنضبط والمتواصل، الذي حال دون قيامهم بأنشطة تنظيمية تغطي مجمل ساحتهم الوطنية، الداخلية والخارجية، ومن دون أن يكون هناك تمثيل حقيقي لهم، ينقادون له جهةً تعبّر عنهم، وتستمد قوتها من قبولهم الطوعي بها، وانخراطهم في الأنشطة التي تخدمها وتعزّز مواقعها، وتحترم رموزها وأشخاصها. في هذا الواقع، لا يرى المسؤول في نفسه ممثلاً للشعب، يلتزم بمصالحه ويلزمه في المقابل بالتعاون معه، ولا يرى الشعب في المسؤول شخصاً يمنحه ثقته، ويلتزم بإقامة علاقاتٍ دائمة معه، منظمة وطوعية، توحد جهودهما ضمن سياق وطني عام، يعد الخروج عليه خطأً غير جائز. لهذه الأسباب، تعيش الثورة وأنصارها غربة متبادلة تحول دون تنسيق أي عمل منظم ومديد بينهما، فلا يبقى إلا أن يغنّي كلٌّ منهما على ليلاه.
يفتقر ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وحكومته، إلى جهاز مؤسسي متكامل، يتولى استقبال اللاجئين عند حدود وطنهم، فيدوّن معلوماتٍ تفصيلية عن حاجاتهم الطبية والإغاثية والسكنية والتعليمية، واختصاصاتهم وأعمالهم وخبراتهم، ويزوّد بها جهازاً خدمياً آخر يلبيها، ويتكفل بتوفير فرص عمل لهم، تعينهم على تجاوز مصاعب غربتهم، والقيام بأود أولادهم والمحافظة على أسرهم وروابطهم مع وطنهم.
بالنسبة إلى "الائتلاف"، ممثل السوريين السياسي، أبقاه ضعفه مؤسسةً هامشية التأثير على حاضنة الثورة المجتمعية ومشكلاتها، التي ترتبت على قيام النظام بتهجيرهم من وطنهم وداخله بقوة السلاح. وزاد من بؤسهم عدم وجود علاقة منظمة، وذات التزامات متبادلة بينه وبينهم، كقواعد شعبية مفترضة له، وتخليه عنهم لتنظيمات غير تمثيلية، لعبت دوراً فاعلاً في انقطاع أي تفاعل جدي مع من يمثلهم، الأمر الذي أقنعهم بتقصير الثورة تجاههم، وتجاهل تضحياتهم وقدراتهم، على العكس من منظمة التحرير الفلسطينية التي تدفع اليوم أيضاً رواتب شهرية لأسر فلسطينية في الشتات العربي، واستقطبت حتى الأمس القريب الفلسطينيين داخل وطنهم وخارجه.
لا تغطي مؤسسات الثورة السورية قطاعات مجتمعها، وليست تغطيتها من أولوياتها. لذلك فشلت في نيل اعتراف داخلي، يجعل منها قيادة ثورية لا منافس أو منازع لها، تستقطب حتى الخاضعين من السوريين للنظام، ومن يعيشون ويعملون منهم في الساحات الخارجية، فلا تتبعثر جهودهم الثورية في الداخل، أو ينشطون خارج أي صلةٍ مع مؤسسات الثورة الرسمية التي لا تمارس أي دور قيادي أو إرشادي في حياتهم، أو تتدارك افتقارها إلى تفاعل إيجابي ومتبادل معهم، هو من شروط انتصارهم على النظام ونيل حريتهم.
يزيد مرور الوقت، وانتقال الصراع من طوره العسكري إلى طور سياسي غالب من الحاجة إلى استخدام كثيف وعقلاني لقدرات الشعب السوري: المعطلة منها أو المحيّدة أو المؤيدة للثورة. وفي حين يقاتل النظام بـ 90% من قدرات مؤيديه، تقاتل الثورة بأقل من 20% من طاقات شعبٍ لا تقل نسبة مؤيديها فيه عن 70%. صحيح أن استنزاف جماعات النظام يعطل قدرته على إعادة سورية إلى زمن ما قبل الثورة، لكن تعطيل قدرات الشعب، والعجز عن تفعيلها، يزيد بدوره تكلفة الثورة البشرية، ويحتم بناء أجهزة ونظم مؤسسية لها، تدرب قطاعات واسعة من شبابها على إدارة مناطقهم، بطرق تتفوق على طرق النظام الفاسد، وتوسع حلقات المؤهلين لتولي السلطة، وتعزّز قدرتهم على إقامة نظام مشاركة ديمقراطي، حر وعادل.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.