وإذا الثورةُ سُئلتْ

10 يناير 2017
+ الخط -
يُقال إنه يقف على قبر "الثورة السورية"، الآن، خليط بشريّ غريب، كان يبدو، إلى برهة غير بعيدة، غير متجانسٍ، يقرع الأنخاب احتفاءً بالموءودة التي دفنت، وهو خليطٌ مدهشٌ لن يتصوّره عقل، خصوصًا إذا علمنا أن "أبطاله" خوذ وجنرالات وعباءاتٌ نفطية، وطوائف وملل لا تبدأ بـ"السنة" ولا تنتهي بــ"الشيعة".
ويقال إنه لم يتجرأ، حتى الآن، أحد ليسأل "الخليط" إياه عن سبب وأد الثورة. وإن فعل، فعليه أن يتساءل قبل ذلك: هل كانت ثورة الربيع السورية، أساسًا، ضد بشار الأسد، لأنه كان "كافرًا"، أم لأنه كان "طاغية"؟
الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال تعني الكثير؛ لأنها وحدها ما يفسّر سبب إخفاق الثورة السورية. ومن الواضح أن الإجابة معروفة، وهي أن ثورات الربيع العربي، في مجملها، قامت ضد استبداد الأنظمة الحاكمة، وليس لإقامة "الدولة الإسلامية"، ولو كانت هذه الأنظمة عادلةً وديمقراطيةً وتحترم حقوق إنسانها، من دون أن تكون "مؤمنةً" أو مطبقة للشريعة الإسلامية، لما اندلعت هذه الثورات من أساسها.
بهذا المعنى، أخفقت ثورة الربيع السورية، حين تحولت من ثورةٍ على الاستبداد إلى ثورةٍ على "الكفار"، ورضيت على نفسها الاصطباغ بالصبغة الدينية، لتحشر ذاتها في نفقٍ لا يقبل القسمة على أطياف المجتمع الأخرى التي لا تشترك معها في الديانة والملًة.
وقد يبدو من السخف الاكتفاء بهذا التعليل للإخفاق، من دون الأخذ، طبعًا، بالعوامل الخارجية التي لعبت أقذر الأدوار في إفشال الثورة السورية، ودفعها إلى هذا الهاوية، وفي مقدمتها، بالتأكيد، رهط الأنظمة العربية المرتعدة من وصول ثورات الربيع إلى أطراف "عباءاتها"، فراحت، وهي الأنظمة الاستبدادية التي لا تختلف مقدار سوط واحد عن نظام الأسد، تتذرع بـ"حقوق الإنسان"، و"غياب الحريات"، وما إلى ذلك من شعاراتٍ تفتقدها دولها ذاتها، لتبرير تدخلاتها، أو بالأحرى "لغوصاتها"، في الثورة السورية، إما بإرسال المقاتلين من دولها، أو بإغراق الثوار بالسلاح والمال، أو بالتحريض على نظام الأسد في المحافل الدولية، فيما كان الأخير يجد في هذه الهجمة الشرسة عليه ذريعةً داخليةً مبطنةً للاستعانة بإيران وحزب الله والحشد الشعبي، بحجة "التهديد الطائفي"، وخارجية عنوانها "ضرب قوى الممانعة"، فضلًا عن الاستعانة بروسيا التي وجدت في الدفاع عن نظام الأسد طريقًا لاستعاد هيبة الاتحاد السوفييتي النافق، من جهةٍ، ولفرض الحضور على الساحة الدولية، من جهة أخرى.
وفي المحصلة، أخفقت الثورة السورية، علمًا أن تلك الأنظمة لن تذرف دمعةً واحدةً على هذا الإخفاق؛ لأنها كانت تريد بلوغ هذه النتيجة، لدرء خطر الربيع عن خريف صحاريها الجاف. ولربما كان الشاعر مظفر النواب أول من تنبأ بمصير الثورة السورية، عندما طرح سؤاله الشعري قبل عقود: "ماذا يطبخ تجار الشام على نار جهنم"، غير أنه ترك السؤال مفتوحًا من دون إجابة، وإلا لكان منح هذه الثورة مدخلاً لتلافي الإخفاق الذي يبدو أنه سيكون مقدمة لقطع الطريق على ثوراتٍ أخرى، كانت تهيئ نفسها للاندلاع، في أقطار عربية أخرى، استكمالاً للسلسلة التي بدأت في تونس.
ولربما ينبغي الاعتراف بأن تجار الشام "لعبوها صح"، لإجهاض هذه الثورة، حين دفعوها دفعًا إلى "العسكرة"، والسماح لمن "هبّ ودبّ" بالانضمام إليها، تحت شعار "المؤازرة"، فاختلط الحابل بالنابل، وتفرّقت الثورة شيعًا وجماعات، وحدث ما حدث من اقتتال داخلي بينها على "الحارات" والأحياء، مع كل ما ترتب على ذلك من ترويعٍ وتهجيرٍ وقتل للشعب الذي وجد نفسه بين مطرقة النظام وغابة "اللحى" التي يلتهم بعضها بعضًا.
بيد أن الشاعر النواب أخفق، هو الآخر، حين لم يوسّع "طنجرة الطبخ" قليلًا، لتشمل عواصم أخرى، وتجارًا آخرين كانوا يتسترون بعباءات "إسقاط النظام السوري"، غير أنهم الآن يجتمعون مع "تجار الشام" أنفسهم، على قبر "الموءودة" ذاتها، ويقرعون الأنخاب، احتفاءً بموت ثورةٍ لن يسأل أحدٌ عن ذنبها غير تسعة ملايين لاجئ ونازح، ومليوني قتيل، وأزيد من نصف مليار عربي يتيم، مات ربيع ثوراتهم قبل أن يبدأ.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.