"سلفنة" العنف

29 سبتمبر 2016
+ الخط -
كتب الصحافي البريطاني الشهير، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، روبرت فيسك، مقالا احتفائياً بالمؤتمر الذي عُقد الشهر الماضي في العاصمة الشيشانية غروزني، لتحديد "أهل السنة والجماعة"، وأقصى السلفيين، بمشاركة شيخ الأزهر، أحمد الطيب. وانتقد فيسك ما اعتبره "تجاهلا" صحافيا غربياً للمؤتمر، المهم في رأيه، مردّداً ما تم تناوله إعلامياً أن هدف المؤتمر الأساسي هو عزل السعودية والسلفية، في العالم الإسلامي، وهذا صحيح.
لم يكتف فيسك، مثل أغلب المعلقين على قضايا "الإرهاب"، بتقديم قراءة خاطئة لواقع العنف في المنطقة، والذي تشترك فيه أيديولوجيات مختلفة ومتناقضة: علمانية بعثية، وسلفية جهادية، وخمينية إمامية، من خلال اعتبار العنف حكراً على الأيديولوجيا السلفية الوهابية. بل حاول قراءة التاريخ أيضا بشكل رجعي، يتجاهل التاريخ والسياسة على حد سواء، ليمرّر "كليشيهات" إعلامية، عن احتكار السلفية العنف. وأشار فيسك إلى ما اعتبرها "رمزية" غروزني، في مؤتمر "أهل السنة والجماعة"، باعتبار أن الشيشان عانوا من "إراقة الدماء على يد الروس والثوار الوهابيين"، في إشارة إلى حروب الاستقلال الشيشانية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
على الأرجح، لا يجهل فيسك أن الشيشانيين ليسوا "وهابيين"، بل صوفية، كما أنه لا يجهل أن الشيشانيين ثاروا، عشرات المرات، ضد الهيمنة الروسية والسوفييتية خلال الـ 150 سنة المنصرمة، والثورات هناك أمرٌ متوارث أحياناً، فشامل باسييف هو حفيد ثائر آخر، جده الذي ثار ضد روسيا القيصرية قبل نحو مئة عام. كما أن جوهر دودايف، أول قادة حرب الاستقلال الشيشانية في التسعينيات، يملك تاريخاً سوفييتياً جداً، كما أن المشاركة "السلفية" في الصراع الشيشاني كانت من قبيل المشاركة في صراعٍ دائر، لا بناء وتأسيس جبهة، وعلى الرغم من الدور المهم الذي لعبه الجهادي السعودي، ثامر السويلم (خطاب) في القتال هناك، حتى اغتياله في 2002، فإن هذا الرجل كان مغرماً بقتال السوفييت، وليس بنشر السلفية.
بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، ودخول الفصائل العاصمة كابول، وبدء القتال بين المجاهدين، سلك "الأفغان العرب" سبلاً عدة، تجاه هذا المتغيّر، فهناك من عاد إلى بلده، وآخرون اعتزلوا القتال، وبقوا في معسكرات "محايدة"، كما أن هناك قرابة ثمانية مقاتلين، بينهم عربيان، هما خطاب، وأبو الوليد الغامدي، قرّروا أن الحرب ضد الاتحاد السوفييتي لم تنته، وأن هناك قتالاً دائراً في الشيشان، اختاروا الانضمام له.
الأهم هنا، ليس الحديث عن مغالطات روبرت فيسك عن "سلفية" القتال في الشيشان، بل تتمدّد هذه المغالطة لتشمل الجهاد الأفغاني نفسه، والذي يتم تصويره على أنه صُبغ بأيديولوجيا "سلفية وهابية"، بينما كان سلفيون كثيرون، آنذاك، معترضين على دعم الجهاد الأفغاني، باعتبار أن القائمين عليه "ليسوا سليمي العقيدة"، أي "ليسوا سلفيين"، باعتبارهم أشاعرة وصوفية، حتى أن أهم فصيل أفغاني كان يحظى بتزكيةٍ سلفية، هو فصيل جميل الرحمن، والذي قيل أن زعيمه أصبح سلفياً، بينما جذوره صوفية نقشبندية.
لا يقتصر الأمر على التاريخ، فمقاومة الاحتلال العراقي جاءت بنكهاتٍ أيديولوجية متعدّدة، كان أبرزها تشكيل فصائل غير سلفية، مثل "جيش الطريقة النقشبندية"، وهو الذراع العسكري لـ "حزب البعث العربي الاشتراكي" (!)، وكتائب ثورة العشرين المقربة من الإخوان المسلمين. في مقابل الفصيل الأكثر سلفيةً الذي شكله أبو مصعب الزرقاوي، باسم "التوحيد والجهاد".
نعيش في العالم العربي، والإسلامي، عنفاً سياسياً، مردّه أوضاع سياسية استثنائية، وسياقات تاريخية استثنائية، لم يستجب لها العرب والمسلمون كما ينبغي. والمشكلة مضاعفة مع العرب، بسبب تشظيهم في دول شتى، وعملهم ضد بعضهم بعضاً، أو في الحد الأدنى صمتهم عما يحدث في ديارهم. أنتجت هذه الأوضاع ما نراها من مليشيات تتقاتل فيما بينها، بأيديولوجيات مختلفة، بعثية وخمينية وسلفية، ولا شيء في الحاضر، ولا في التاريخ، يقول إن العنف لا يكون إلا سلفيةً أو وهابياً.
424F7B7C-113B-40E9-B0BD-EFA3B6791EB5
بدر الراشد

كاتب وصحافي سعودي