هل تحتاج فاتن حمامة سبورة؟

18 اغسطس 2016

كانت فاتن حمامة تفر من السياسة دائما (Getty)

+ الخط -
للسلطة في مصر التي تحتاج دائماً إلى سند من خارجها أفاعيل مضحكة أحياناً، (الجاكيت الأحمر مثالاً)، وساذجة في أحايين، وما أكثرها، بحثاً عن سندٍ يدعم وجودها، ويعطيها مشروعية القبول والرضا من الجماهير، من خلال أسماء أهل الفن، فقد حزنت، حينما رأيت الفنان سعيد صالح، في آخر أيامه، ولا يكاد يكمل جملةً صحيحة، وقد استند بجوار زوجته في سيارةٍ أمام لجنة انتخابية في الانتخابات الرئاسية لعبد الفتاح السيسي، وتسأله المذيعة: هل أنت جئت كي تعطي صوتك؟، فرد يرحمه الله بالكاد: أيوه جيت أدي صوتي... وزاغت عيناه، ولم يستطع أن يكمل الحديث، فطوّقته زوجته الشابة بذراعها، وانطلقت بسيارتها. وما دام الأمر كذلك، فما المانع من استخدام الأحياء من كبار السن، كسهير البابلي، كي تطلق صواريخها السياسية المعدّة سلفاً، مثل ندمها على حتى "شراب مبارك المعفن". واستخدام الموتى النبلاء، وإن كنّ من النبيلات البعيدات عن القيل والقال، حتى وإن كانت هي فاتن حمامة، وقد كانت تفرّ من السياسة، كما يفرّ الإنسان من الجرَب. والدليل أنها رفضت استخدامها في الستينيات من مخابرات جمال عبد الناصر، وفرّت بنفسها وحبها إلى الخارج، فما الذي جعل الأحياء يعيدون نبش قبرها، كي تعينهم سيرتها على المشروعية والسند؟ فوضعوا اسمها في سبورةٍ على باب مدرسةٍ في بلدة صغيرة، هي بلدة زوجها الدكتور محمد عبد الوهاب، على مقربةٍ من قصره الذي لا يسكنه، ولا يكاد يرى أهل تلك البلدة، حتى إن ابن عمه قال: "دكتور محمد لا يأتي أبداً إلى البلد، ولم يقدم شيئاً للبلد طول عمره، ولم نره من سنوات، وقصره مغلق من سنوات".
ما الذي يريده المسؤول عن تلك الفعلة بالضبط؟ حكم القضاء بإلغاء إلصاق اسم فاتن حمامة بالمدرسة، ونزع أهل البلدة السبورة الصغيرة التي كتبوا عليها اسم فاتن حمامة، وعلقوها فوق باب المدرسة، وهي للعلم اسمها مدرسة ترسا للتعليم الأساسي، فما علاقة فاتن حمامة بالتعليم الأساسي وبترسا، خصوصاً أن زوجها لا يذهب أصلاً إلى ترسا. وبالطبع، لم تر فاتن حمامة ترسا، ولا حتى مسكت شاكوشاً في ورشتها، فما هي العبقرية التي تفتقت في ذهن ذلك المسؤول، لكي يعيد فاتن حمامة من قصرها في القطامية، حتى يحشرها ما بين الشواكيش والمناشير والمسامير والصواميل والمفكّات في مدرسة ترسا للتعليم الأساسي؟ إنه الغباء، حينما يتجلى في رؤوس المسؤولين، كي يعطوا مشروعية لنظامهم.
ذكّرني هذا المشهد الهزلي كله، من أوله إلى آخره، بتمثال الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب في ميدان باب الشعرية أمام مسجد الشعراني، مرةً أراه باللون الأصفر، ومرة بالأخضر. والتمثال أقرب إلى أن يكون لرجاء جارودي، وليس لمحمد عبد الوهاب، فلا نحن أنصفنا عبد الوهاب، ولا فرح بالتمثال جارودي، ولا حتى حلم به وهو جالسٌ هكذا أمام مطعم الصعايدة، فما علاقة جارودي بمطعم الصعايدة أو بباب الشعرية؟
يأخذني ذلك كله إلى حديثٍ آخر، فهل كان، مثلاً، فان غوغ يحتاج، بعد موته، إلى أن يكتب اسمه فوق سبورة صغيرة من مدارس عمّال الفحم التي خلّد أجواء فقرائها في لوحاته؟ وهل تحتاج فاتن حمامة، الآن، إلى سبورةٍ صغيرةٍ يكتب عليها اسمها في بلدة ترسا؟ وهل يحتاج الشاعر البرتغالي، بيسوا، وضع تمثال له على باب وكالةٍ للمحاسبة التجارية لشركة محاسبة بحرية صغيرة في البرتغال. وهل تحتاج أم كلثوم، بعد أن رقصّت النسائم، وأعواد الورود والذرة والقطن والسيسبان في ربوع مصر والوطن كله، إلى وضع اسمها على باب مدرسةٍ ابتدائيةٍ في قرية طماي الزهايرة؟ وهل تحتاج أسمهان الذي حنّ لعذاب صوتها الحجر في جبال الأحزان من وطننا العربي إلى لوحةٍ صغيرةٍ في مدرسة في جبال الدروز مثلاً؟
واضح أننا لا نعرف طعم الإبداع ولا عذابه، ولا نعرف حتى رقّة الدمع. هذه الأشياء الهينة والتي طواها تاريخ الإبداع من قرن، قد يسعى إليها مثلاً مرتضى منصور، أو الشيخ علي جمعة، أو الفقيه الدستوري شوقي السيد، أو الصحافي محمود مسلم، أو المذيع أحمد موسى، بعد عمر طويل. ساعتها، ستكون المدارس كلها تقريباً منزلية، والتعليم عن طريق الإنترنت. ويومها قد يتحول قائد الأسطول السادس الأميركي إلى الإسلام، وقد يتزوج فتاةً فقيرةً من ترسا، للتقرّب للناس والبسطاء من أهل البلاد والدين. ورجاء أخير، ارفعوا أيديكم عن الموتى، يرحمكم الله.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري