إعدام راعي الأول

26 يونيو 2016
+ الخط -

قال المواطن الطيب شفيق إن الخطأ الذي يرتكبه الإنسان، في موقفٍ ما، يمكن أن يُشَكِّل سلسلةً غيرَ متناهية من الأخطاء الفرعية، وكل واحد منها يبدو أسوأ، وأخطر من سابقه. وفي أحيانٍ كثيرة، يقف الإنسان موقفاً صحيحاً، لكنه يبلغ قمة الاستغراب، حينما يرى الآخرين منزعجين منه، لأنه لم يخطئ!.

مثلاً، محاسب الإدارة في شركتنا، السيد عبد القادر، كان رجلاً فاضلاً، حسن التربية والأخلاق، وكانت أموره تسير على ما يرام. أما الشخص الذي عينته القيادةُ الحكيمةُ في منصب المدير العام، فكان أكثر منه استقامةً وإخلاصاً، بدليل أنه كان يربت على كتفه، ويقول له: أحسنت، يا ولدي، في حرصك على أموال المؤسسة، فهذه الأموال، في المحصلة، ملكٌ للشعب، وهل يجوز لأحدٍ، مهما علا أو دنا، أن يتلاعب بقوت الشعب؟   

واستمرت الأمور على هذا المنوال ردحاً من الزمن، حتى جاء مطلع شهر تموز/ يوليو، من ذات سنة، وإذا بالمدير العام يستدعيه إلى مكتبه، ويقول له: أنت، يا عبد القادر، رجل قليل الحياء، عديم الإحساس، أناني، تستأثر بالأمور النظيفة، وتترك الأمور الوسخة لغيرك. وكأنك أنت (ابن الست) والناس غيرك كلهم أبناء الجارية.. أفيجوز هذا يا أخي؟

دُهش عبد القادر، وقال للمدير: أبلغكم بتواضعٍ، سيدي، أنني لم أفهم شيئاً مما قلتموه لي.

فشرح له المدير أننا، جميعاً، لا نعيش على كوكب المريخ، بل على سطح الأرض، في دولة اسمها سورية، رئيسُها رجلٌ مناضلٌ، شريفٌ، اسمه حافظ الأسد، يقودنا في محيطٍ يزخر بالصعاب والتحدّيات والمؤامرات. لذلك، علينا أن نرتقي إلى مستوى المسؤولية، ونتدبّر أمورنا، معتمدين على المثل الشعبي: لا يَموت الذئب ولا تَفنى الغنم.

وتابع المدير قائلاً: أنا، مثلاً، أكون مضطراً، في أحيانٍ كثيرة، لإنفاق أموالٍ لا يوجد لها أساس، أو سند، في القوانين والأنظمة المعتمَدة في بلادنا، كأنْ أدعو رؤساء فروع المخابرات إلى عشاء عمل، مع قليل من الويسكي، في مطعم فاخر، أو أن أشتري هدايا لبعض الوزراء وأعضاء القيادة القطرية للحزب، أو أن أتبرّع بقسائم البنزين لبعض المُخبرين والمتنفذين،... وحينما يأتي موعد الجرد نصف السنوي، في رأس السنة، أو في أواخر حزيران/ يونيو، تنكشف الأحوال، وأبدو أنا الإنسانَ الشريف النزيه، وكأنني اختلستُ الأموال التي أنفقتها في السبل التي حدثتك عنها. أفيرضيك هذا؟

تأثّر عبد القادر بكلام مديره العام، وقال له: ماذا نفعل؟

قال المدير: اللجنة المكلفة بالجرد نصف السنوي لم تصل بعدُ إلى خزان الوقود التابع للمؤسسة، وهو الآن شبه فارغ، فما رأيك أن نفجّره بعبوةٍ ناسفة، ونكتب تقريراً نقول فيه إن هذا حصل بفعل تَمَاسّ كهربائي؟ والناس، لا شك، ستصدّق هذا، لأن نسبة اشتعال الوقود تكون عاليةً جداً في الصيف... ثم نأتي بلجنةٍ تقدّر كمية المحروقات بما يكفي لتغطية النفقات الاضطرارية التي تكبدتُها أنا في سبيل المصلحة العامة.

عبد القادر رجل رقيق القلب. ولذلك، اعتذر عن الفكرة، وقال: أترجّاك، أستاذ، بلا التفجير.

قال المدير: إذن، ما رأيك أن نحتفل، خلال الأيام المقبلة، ببقاء أربعة أشهر على ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد؟ بإمكاننا طبعاً أن نستخدم اللافتات والصور المكدّسة في المستودعات، بينما تأتي أنت بفواتير نثبت فيها أنك اشتريتها الآن؟ وقليلٌ من الطبول والزمور والدبكات تغطي على الموضوع.

بعد أيام من هذا اللقاء، اعْتَقَلَتْ دوريةٌ مؤللة محاسبَنا الفاضل عبدَ القادر، وسيق إلى سجن تدمر، بتهمة اختلاس أموال المؤسسة، والتبرّع بها لجماعة الإخوان المسلمين، وحُكم عليه بالإعدام. كان هذا نتيجة طبيعية للخطأ الجسيم الذي ارتكبه، فلو أنه وافق على الاحتفال المبكر بعيد الحركة التصحيحية، لوجدته الآن في رأس الدبكة، مكتسباً، بجدارة، لقب "راعي الأول".

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...