ضحكة أحمد دحبور

24 يونيو 2016

أحمد دحبور.. عندما يضحك تضحك عيناه الواسعتان

+ الخط -
لا أذكر أن أحمد دحبور في السنوات التي جمعتنا معاً في تونس، حيث عملت تحت إدارته في دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، قد ضحك ضحكة كاملة وناضجة وممتلئة وعفيةً، كتلك الضحكات الثملة المنفلتة من القيود أو الذكريات، أو ربما الانكسارات القابعة في مكانٍ ما من اللاوعي. عندما يضحك، تضحك عيناه الواسعتان، ويبدو أشد وسامةً من وسامته الزاهدة في التعبير، لكنه كأنما، وقد تذكّر خدشاً ما في الروح، أو خيبة خارجة عن إرادته، أو نشيجاً يتسّرب من بيت شقيٍّ في زقاقٍ معتم في المخيم الذي عاش فيه في سورية، فتراه وقد بُترت ضحكته، مثلما تبتر رشقة مطر فتيةٍ، بلا أسبابٍ واضحة، فتُصاب الأرض العطشى بالأسى، ويخيب الفلاح المنتظر الغيث النافع.
لطالما تمنيّتُ لو كان أحمد دحبور روائياً، وليس شاعراً، فحياته تنتظر أن تُحكى بلا انشغال بالعروض والوزن والمفردات الغريبة في الوعاء الذي تزيّنه صحوة الوعي والصنعة، واجتناب الخلل في عمارة المبنى، مثلما هو الشعر، حيث خسارة التقاط تفاصيل الحياة بكل أوجاعها ومصادفاتها، الحياة الشخصية الخالصة في خصوصيتها، بعيداً عن الغرق في أوجاع الحنين العامة.
لحياة أحمد دحبور منعرجاتها ودروبها وهاوياتها وعثراتها وطموحاتها وانتصاراتها الذاتية، وتأكيداتها الصارمة على أن تكون حياةً لائقةً بأحلامه، وفخورة في الانتماء له شخصياً، منذ وادي النسناس في حيفا حيث ولادته، مروراً بمخيم حمص، إلى دمشق إلى تونس وغزة التي استوى فيها كأمير الخيارات الصعبة، ثم العودة ثانية إلى حمص، والفرار منها بعد اشتعال الثورة السورية بعثراتها، فالعمر لم يعد يحتمل خيباتٍ جديدة، والجسد صار عليلاً، ويطلب السكينة، والنزوح من جديد، أخيراً، إلى رام الله، الجزء المتاح من الوطن، كما وصف أحمد دحبور عودته الأولى إلى غزة.
لا نفع للحكي عن شعرية أحمد دحبور، فذلك متروكٌ للنقاد، لكن الشاعر منذ "حكاية الولد الفلسطيني" لفت الشعراء والنقاد لموهبته ورسّخ مكانته في المشهد الشعربي العربي. وأحمد دحبور فصيح اللغة، عليم بخباياها ومفاتيحها، على الرغم من مستوى تعليمه الأكاديمي المتواضع، لكنه استطاع أن يبني لغته بجهدٍ ذاتيٍّ ونهم بالقراءة لكل ما وقع تحت بصره في شؤون الأدب الروائي والشعري والمسرحي والنقد والسينما والتشكيل والفلسفة. وهو مثقف كبير في مختلف المعارف الفكرية، ومرجعية لغوية وثقافية وتاريخية. يعرف كثيراً، ويقرأ كثيراً، ويكتب في كل الحقول. وليس من المبالغة القول إن دحبور الأفصح بين الشعراء الفلسطينيين، حتى أن محمود درويش كان يقرأ له قصائده قبل نشرها، ويستأنس برأيه في اللغة والمبنى، وأذكر أنه صحّح لدرويش مفردةً كان الراحل كتبهاً خطأً. وعلى الرغم من عدم إلمامه بأي لغةٍ أجنبيةٍ، كان على معرفةٍ بكل الأدب العالمي المترجم إلى العربية.
كتب أحمد دحبور، إلى جانب الشعر عالمه المفضل، النقد الأدبي والمسرحي والسينمائي، كما كتب الأغاني لفرقة العاشقين الفلسطينية، وشارك في إدارتها. كما كتب مسلسل "عز الدين القسّام" التلفزيوني الذي أخرجه هيثم حقي. كان شغوفاً بالصورة والسينما، وقد يكون شغفه هذا دفعه إلى مغامرة فاشلة بقبول الدور الرئيس في فيلم روائي قصير "الناطور"، أنتجته دائرة الثقافة في منظمة التحرير عام 1988 في تونس، من إخراج العراقي محمد توفيق، عن قصةٍ لأكرم هنية. لم تكن هذه التجربة لتتكرّر، على الرغم من وسامته الواضحة، القريبة من وسامة الراحل غسان كنفاني. لكن، أن تكون شاعراً جيداً لا يجعلك، بالضرورة، ممثلاً جيداً.
يرقد اليوم أحمد دحبور في المستشفى، ويرقد معه الشعر، يحرسه من السوء، ونحن البعيدون نمدّ إليه قلوبنا، سائلين آلهات اللغة والشعر التي أحبّته وأحبها أن تكون ملاكه المنقذ، ليعود إلى كل الذين أحبوه، وعرفوا قيمته، بما قدّمه للثقافة الفلسطينية والعربية.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.