هزيمة 5 حزيران العربية في منظور سياسي وفكري فرنسي

14 يونيو 2016

ديغول والملك حسين في باريس عقب هزيمة حزيران (4/7/1967/أ.ف.ب)

+ الخط -
على الرغم من كل الحروب والكوارث والجائحات التي حلّت وتحلّ بالعرب، لا تزال هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967 ذات إيقاع خصوصي في ذاكرة الإنسان العربي، وفضائه السياسي والنفسي والاجتماعي والثقافي.
وما تزال هذه الذكرى المأسوية بمثابة حدّ فاصل بين مرحلتين زمنيتين فارقتين في تاريخ العرب الحديث: مرحلة احتلال إسرائيل أراضيَ عربية شاسعة، هي أضعاف.. أضعاف مساحة كيانها، ونقصد: شبه جزيرة سيناء، قطاع غزة، الضفة الغربية والجولان، والمرحلة التي سبقتها، وهي التي كان يأمل خلالها العرب بلورة قواهم، وتحدّي أعدائهم، وتحقيق حدّ مقبول من تضامنهم القومي الجامع، وكانت المفاجأة بشنّ إسرائيل حرباً مثلثة الأضلاع على مصر وسورية والأردن والانتصار فيها.
صحيح أن نتائج هذه الحرب، ولّدت، في المقابل، محاولة تحدٍ جديدة، بادر إليها، هذه المرة، العرب أنفسهم: (مصر وسورية)، وتمثلت بشنّهم حرباً غير متوقعة على الكيان العبري في 1973، قلبت، في بداياتها، الموازين لمصلحتهم. ولكن، سرعان ما انقلبت الآية ضدهم، خصوصاً بعد التدخّل العسكري الأميركي المباشر في تلك الحرب، وبناء جسر جوي مفتوح من المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، أدّت إلى ما أدّت إليه من تبدّل الوضع الإسرائيلي في سيناء، ومن فصل إسرائيل الضفّة الغربية عن السيادة الأردنية، وضمّ القدس وهضبة الجولان إلى حدودها غير المرسومة بشكل نهائي حتى الآن، ودفع العرب للقبول لاحقاً، أي في عام 1991 بمؤتمر مدريد للسلام، وعلى قاعدة المبدأ الذي اخترعه كيسنجر وكرّسه "الأرض مقابل السلام".

وكانت هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967 قد تركت بُعيد حدوثها آثاراً سلبية على غير العرب أيضاً، من دول وأصدقاء لهم في الغرب نفسه، خصوصاً في فرنسا الديغولية التي سعت، بجديةٍ، إلى دعم العرب، وتحدّي الأميركيين والإسرائيليين بإدانتها العدوان، واعتبار ذلك تجاوزاً للقانون الدولي، وخرقاً لمواثيق الأمم المتحدة. وأعلن ديغول وقوفه إلى جانب مصر وسورية، وزوّد مصر خصوصاً، بطائراتٍ حربية من طراز ميراج، علاوة على أسلحة فرنسية برية وبحرية شتى. وكما يقول الفريق أول سعد الدين الشاذلي لمجلة الكفاح العربي اللبنانية: "جعلت نكبة الخامس من يونيو أميركا تعيد حساباتها كلياً ضد فرنسا، وتتحيّن الفرص للإيقاع بنظام الجنرال ديغول، هذا الزعيم السياديّ الحقيقي الوحيد وسط زعماء القارة الأوروبية، والتي وجدت فيه خطراً على مصالحها، ليس في الشرق الأوسط فقط، وإنما في أوروبا وشمال أميركا وإفريقيا وطبعاً في أميركا اللاتينية".
في الذكرى الـ49 لهزيمة العرب في الخامس من يونيو/ حزيران 1967 نسلّط الضوء، وربما للمرة الأولى، على الموقف الفرنسي الجدّي من تلك الحرب العدوانية على العرب، بقيادة إسرائيل والولايات المتحدة، تعيننا في ذلك معلوماتٌ كان ساقها لنا لوسيان بيترلان "رئيس رابطة الصداقة العربية - الفرنسية" والناشط السياسي الفاعل في الحزب الديغولي، ورئيس تحرير مجلة "فرنسا والبلدان العربية"، حين التقاه كاتب هذه السطور، بمعيّة صديق فرنسي من أصل لبناني، قبل سنوات في مقر الرابطة في باريس.
وبدردشة مطولة مع بيترلان الذي كان أحد أبرز رجال المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي لفرنسا، والمقرّب جداً من الجنرال شارل ديغول، عرفنا منه أن "رابطة الصداقة الفرنسية – العربية"، إنما تأسست بداعي هزيمة العرب في حرب الـ67، وبُعيد حدوث الهزيمة بأيام، وذلك ردّ فعل فرنسي على ما جرى، وحتى قبل أن يُلقي الرئيس الفرنسي الأسبق خطابه الشهير، الذي حدّد فيه سياسة باريس المؤيدة للعرب وللزعيم جمال عبدالناصر في الشرق الأوسط. يقول لوسيان بيترلان بالحرف الواحد: "أنشأنا مؤسستنا هذه في 1967 رداً على الهجوم الإسرائيلي على البلدان والشعوب العربية، ولم نكن قادرين على إنشائها قبل ذلك، أي إثر الحرب العدوانية الإسرائيلية الأولى في فلسطين في 1948، لأننا كنّا منهمكين بهموم سياسية وأمنية أخرى، كانت تشغلنا كالحرب في الهند الصينية، وفاتتنا أهمية ذلك العدوان الإسرائيلي ونتائجه على السلم العالمي. لكننا أدركنا بعد حرب 67 أنه لا يمكن أن تكون هناك حلول للمشكلات الكبرى من دون حل لهذه المشكلة الأساسية (أي المشكلة الفلسطينية). وقد تأسسنا كرابطة رسمية بمبادرة من مقاومين فرنسيين قدامى اعتقلتهم النازية، ونقلتهم إلى معسكرات الاعتقال الشهيرة في ألمانيا؛ ومنهم، مثالاً، لوي تيرنوار، الرجل الذي ذاق مرارة الاضطهاد النازي على شاكلة الاضطهاد الذي عانى منه بعض اليهود. ولكن، ليس بوصفه يهودياً، فقد كان مسيحياً، وكان مسؤولاً قيادياً في المقاومة السرية ضد الاحتلال النازي لفرنسا؛ وكان إلى جانبه المناضل مون ميشليه، وكلاهما كانا وزيرين في حكومة شارل ديغول التي تشكلت في 1958، وكان فيها أيضاً الوزير الشهير والمقرّب من الجنرال ديغول، أندريه مالرو. وبعد ذلك، زار لوي تيرنوار ديغول الذي كان رئيسا للجمهورية، وأعلمه بأننا أنشأنا هذه الجمعية، التي تدعم سياسته العربية، قبل أن يُلقي خطابه الشهير في 1967 معلناً فيه الخطوط العريضة لتلك السياسة، وموقف فرنسا من الصراع العربي – الإسرائيلي".
ويردف لوسيان بيترلان: "كانت سياستنا دعم حركة التحرير الجزائرية، ودعم المقاومة الفلسطينية، على الرغم من البروباغندا الصهيونية، وفي مواجهة آلتها القوية في فرنسا. وقد كنّا نعتمد في هذه المواجهة على وقائع من نوع أن الناجين من الاضطهاد النازي، كانوا يرفضون علناً الذهاب إلى إسرائيل والعيش فيها. هذا الماضي يتكرر ويلازمنا في الحاضر على الدوام".
من جهة أخرى، وفي إطار تأثر الساحة اللبنانية بالموقف الديغولي المساند بقوة للعرب، ما زال كاتب هذه السطور يتذكّر في صيف 1967 كيف امتلأت جدران بيروت، ومعها مدن صور وصيدا وطرابلس وبعلبك بصور الجنرال ديغول، تحية وفاء له، وردّ جميل عفوياً على موقفه التاريخي والاستثنائي هذا.
ولما سألنا لوسيان بيترلان عن ردود فعل اللوبي الصهيوني داخل فرنسا على سياسة ديغول العربية، أوضح أن المتشدّدين اليهود في فرنسا كانوا أصلاً يعيشون مرحلة زهو وانتصار بالغة الحماسة بنتائج العدوان الإسرائيلي على العرب، وبدأوا يتنبّهون بعد ذلك، وسريعاً، إلى موقف ديغول الرسمي ويحاربونه علناً، إنما على طريقتهم الشبكية الأخطبوطية وبذكاء خبيث ومؤثّر.

ديغول وأم كلثوم
لكن ديغول مضى في مواجهته التصعيدية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط، وبجميع السبل، حتى الثقافية والفنية منها، إذ قادته تكتيكاته إلى استخدام ورقة أم كلثوم عاملاً مساعداً في رفع معنويات أكبر حشود ممكنة من العرب المؤيدين لسياسته، داخل فرنسا وخارجها، فارتأى، في ضوء ذلك، أن تستضيف فرنسا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم في حفل غنائي كبير يقام على مسرح الأولمبيا في باريس، ويكون الحفل بمثابة رسالةٍ سياسيةٍ غير مسبوقة في تاريخ حروب الأمم والشعوب. وكان له ما أراد، في المحصلة النهائية، من مردود شعبي وحماسي عربي عام.
وفي بعض تفاصيل قصة ديغول/ أم كلثوم، أنه تمّ الاتصال بمدير مسرح الأولمبيا، برونو كوكاتريكس، الذي لم يكن على دراية بقوة أم كلثوم مغنية شعبية عربية، فقيل له إن منزلتها في العالم العربي كمنزلة أديث بياف في فرنسا. لم يصدق في البداية، وظلّ يتوقع خسائر فادحة جرّاء إقامة حفل غنائي لها في باريس.. "فتعهدنا له بأن ندفع المبلغ المتبقّي من المال، إذا لم يُقبل الجمهور بما فيه الكفاية على شراء التذاكر. وبالفعل، وعلى الرغم من الحملات الإعلانية عن حفل الغناء هذا، لم يُقبل الجمهور على حجز المقاعد الموعودة. وكان العرب أنفسهم يعتقدون أن أم كلثوم لن تأتي إلى باريس والغناء على مسرح الأولمبيا. في أثناء ذلك، حضرت فكرة لدى أحد أعضاء "رابطة الصداقة العربية – الفرنسية"، ومفادها بأن يتمّ إعداد فيلم تلفزيوني يُصوّر لحظة هبوط أم كلثوم أرض مطار لوبورجيه، واستقبالها من الموفدين الرسميين، وعرض الفيلم ضمن نشرة الأخبار في الأيام التي تسبق موعد الحفل. وبالفعل، ترجمت الفكرة على أرض الواقع، وتمّت إذاعة الفيلم التلفزيوني على الملأ، في سياق أكثر من نشرة إخبارية، الأمر الذي ألهب الشارع الفرنسي والعربي المتحمّس لكوكب الشرق، وسرعان ما بدأ التزاحم على شراء تذاكر الدخول، حتى نفدت التذاكر كلها، ونجح الحفل الغنائي نجاحاً فاق كلّ تصوّر.
تجدر الإشارة إلى أن دعوة أم كلثوم إلى فرنسا جاءت في إطار رسمي خالص، ومن قصر الأليزيه مباشرة؛ وقد استقبلها على أرض المطار طاقم من المسؤولين الرسميين الفرنسيين، وأغلب السفراء العرب وجمهور من العرب المقيمين على الأرض الفرنسية. وخارطة الموعد المحدّد لغناء أم كلثوم كانت مرسومة من شقين أو حفلتين: حفلة بتاريخ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وأخرى في 15 من الشهر نفسه، والأغاني التي أنشدتها سيدة الغناء العربي في الحفلتين هي "الأطلال" و"أمل حياتي" و"فات الميعاد".

ويخبرنا لوسيان بيترلان أن أم كلثوم، وقبل شروعها بالغناء بيوم، خرجت للتنزه في شوارع باريس برفقة علي السمان رئيس "الاتحاد العالمي لحوار وثقافات الأديان" وابن شقيقها والسفير المصري لدى فرنسا. وقادتها النزهة إلى حديقة اللوكسمبورغ بالقرب من مبنى مجلس الشيوخ الفرنسي في الحي اللاتيني، وهناك صرّحت للإعلام: "حضرت إلى باريس بدعوة رئاسية فرنسية كريمة، وقد لبيتها من منطلق خدمة بلدي مصر، فكلنا جنودٌ في معركة الدفاع عن مصر، وسنضحي بمهجنا وأرواحنا كرمى أن تبقى مصر حرة، قوية ومنيعة على أي عدوان أو استعمار، مهما بلغ جبروته وعتوه".
وبعدما بعثت أم كلثوم رسالة تحية خاصة إلى الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، تشكره فيها على دعوته لها إلى بلاده، والغناء في باريس، عاصمة الحرية والأنوار، وتحييه فيها أيضاً على موقفه السياسي المتميز من مصر والعرب ورفضه العدوان الأميركي - الإسرائيلي على الأمة العربية.. بعد هذه الرسالة، تلقت سيدة الغناء العربي رسالة جوابية من ديغول نفسه، حملها إليها لوسيان بيترلان، رئيس الرابطة العربية – الفرنسية، وتضمّنت، بعد الشكر والامتنان، عبارة جد مهمة هي: "أنت ضمير أمة بحالها".
لماذا بنى ديغول سياسته المؤيدة للعرب في الشرق الأوسط؟.. عن هذا السؤال، أجابنا لويس بيترلان: فعل ذلك، لأنه ببساطة كان معادياً للإمبريالية الأميركية، وعلى نحو واضح ومكشوف. ولم يكن يريد للولايات المتحدة أن تتحوّل من دولةٍ للحريات وإعتاق العبيد، إلى دولة لقمع الشعوب واضطهادها.
ذكرى الخامس من يونيو/ حزيران 1967 لا تقتصر، إذن، على العرب وحدهم، بل هي ذكرى كل إنسان حر، يرفض العدوان على وطنه وشعبه. ومن هذا المنظور، وقف ديغول، ومعه كثرة كاثرة من الفرنسيين إلى جانب العرب وقضايا العرب. ويكفي أن بعض من وقف معه كان من رموز المقاومة الفرنسية ضد النازية والاحتلال النازي لفرنسا، لنقول كم كان هذا الموقف جدّياً ومشرّفاً وخالصاً من المزايدات السياسية.
لكن العرب، كالعادة، لا يُحسنون قراءة مصالحهم ومتابعتها إلى آخر الشوط. وتلك معضلةٌ لا تنعكس عليهم وحدهم، وإنما على أصدقائهم، أو من يريد أن يتحالف معهم. يقول لوسيان بيترلان: نعقد لقاءاتٍ كثيرة مع الإخوة العرب، ومعظمها، مع الأسف، لا يكون إلاّ من خلال منطق السوق، وهي اللقاءات التي نتجنبها نحن إجمالاً كرابطة من هذا المنظور. لكنهم يجروننا إليها بغير إرادة منا. ومع أننا نقرّ بأهمية اللقاءات الاقتصادية، لكن الاقتصاد ليس كل شيء. نريد كسر طوق الغربة والعزلة في ما بيننا. نريد أن نصطف حول عناوين سياسية إنسانية تحرّرية واحدة، وخصوصاً في زمن التعولم الأميركي واستلاباته متعدّدة الرؤوس.
وهل أنت متشائم من هذه الحال، يا سيد بيترلان؟ أجاب بما مختزله: نعم، لستُ متفائلاً، فالعرب لا يقومون بما عليهم من واجباتٍ إعلاميةٍ ضروريةٍ وملحّة لرسم الصورة التي يريدونها لأنفسهم في العالم. ولا يتصلون بالعالم على هذا الأساس.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.