أسباب ودلالات تعثر انتفاضة القدس
منذ تنفيذ العملية الفدائية الفلسطينية يوم الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2015، قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، أعلن الفلسطينيون، وبالأحرى قطاعات عريضة منهم، عن اندلاع ما باتت تسمى "انتفاضة القدس"، وهناك من أسماها "الهبّة الجماهيرية، هبّة القدس، انتفاضة الوحيدين"، لكنها انطلقت على كل الأحوال، ولم يعد هناك من جدوى للدخول في نقاش حول التسمية ودلالاتها.
اندلعت الانتفاضة إذن، وبدأ الشبان والفتيان الفلسطينيون ينفذون عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار ضد الجنود والمستوطنين في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية والقدس المحتلتين وفلسطين 1948، وباتت الأرقام والمعطيات الإحصائية تشير إلى أننا بصدد موجة تتصاعد وتتراجع من الهجمات، لكنها مستمرة في كل الأحوال، على الرغم من الجهود الإسرائيلية لإحباطها من دون جدوى، حتى الشهور الخمسة الأولى مع أوائل فبراير/شباط 2016.
لم يعد هناك كثير شك في أن موجة العمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين، أو "انتفاضة القدس"، باتت تواجه تعثراً حقيقياً منذ أوائل فبراير/شباط الماضي، ويمكن الحديث عن حالة من التراجع الملموس والتدريجي لهذه العمليات للشهر الثالث على التوالي، حيث نعيش النصف الأول من مايو/أيار الحالي، وهو ما يطرح تساؤلات وتفسيرات كثيرة لهذا التراجع، الذاتية والموضوعية.
مؤشرات الإحصائيات الرقمية
أظهرت إحصاءات الجيش الإسرائيلي أنه، بعد مرور نصف عام على اندلاع الانتفاضة ضد إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، وتحديدا بين أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2015 ونهاية مارس/آذار 2016، بلغت الهجمات الفلسطينية 168 هجمة في الضفة الغربية، ضد الجنود والمستوطنين، إضافة إلى 39 عملية في القدس وداخل الخط الأخضر، ومن بين هذه العمليات هناك 54 عملية إطلاق نار، بينها 16 استهدفت مستوطنين، و84 عملية طعن بالسكاكين، منها 64 ضد الجنود، و30 عملية دعس بالسيارات، 25 منها ضد الجنود والباقي ضد المستوطنين.
وشهد شهر أكتوبر العدد الأكبر من الهجمات الفلسطينية في أثناء هذه الهبة بعدد 44 هجمة. ومنذ ذلك الشهر، بدأ الانخفاض التدريجي في عدد العمليات، فشهد نوفمبر/تشرين الثاني 35 عملية، أما ديسمبر/كانون الأول فقد شهد 36 عملية، وتواصل التراجع في عدد العمليات حتى وصل في مارس/آذار إلى 10 عمليات فقط.
وحسب إحصائية جيش الاحتلال، نفذت غالبية العمليات بعدد 127 من أصل 168 عملية ضد الجنود المنتشرين في المناطق الفلسطينية، و83% من عمليات الدعس بالسيارات، و76% من هجمات الطعن بالسكاكين توجهت ضد الجنود، في حين أن 39 من العمليات التي وقعت في القدس نفذها فلسطينيون من سكان القرى المنتشرة في الضفة، بالتزامن مع التراجع في عمليات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على قوات الجيش، حيث شهد أكتوبر/تشرين الأول 530 عملية إلقاء حجارة و442 زجاجة حارقة، فيما شهد مارس/آذار 185 عملية إلقاء حجارة وزجاجة حارقة فقط. ومنذ بداية 2016 وقعت 664 عملية إلقاء حجارة، و484 مظاهرة فلسطينية، و79 عملية إلقاء زجاجة حارقة، و48 عملية مسلحة.
ويبدو شهرا مارس/آذار الماضي، والنصف الأول من أبريل/نيسان، الأكثر هدوءًا في موجة العمليات التي اندلعت قبل ستة أشهر، حيث شهدت الـ45 يوماً تنفيذ خمس عمليات إطلاق نار في الضفة والقدس المحتلتين، وثماني عمليات طعن وعمليتي دعس، مقابل سبع عمليات إطلاق نار، و14 عملية طعن، وعملية دعس واحدة شهدها فبراير/شباط.
تعطي هذه المعطيات الرقمية مؤشراً جديراً بالدراسة بأن الانتفاضة الحالية وموجة عملياتها ربما تكون في طريق نهايتها، لاسيما وأنه يترافق مع تراجع في عدد القتلى الإسرائيليين، فمن بين 33 قتيلاً إسرائيليا، قتلوا منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك قتيل واحد فقط سقط منذ أوائل مارس/آذار الماضي في يافا خلال عملية طعن!
دور التنسيق الأمني
منذ اندلاع موجة العمليات الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول 2015 وحتى أبريل/نيسان 2016، كشف جهاز الأمن الإسرائيلي العام "الشاباك" عن 57 مجموعة مسلحة في الضفة الغربية المحتلة، عشرة منها خطط أفرادها لتنفيذ عمليات اختطاف مستوطنين أو جنود، وفي أربع منها كشف عن مختبرات لصناعة المتفجرات، كانت تجهز أحزمة ناسفة، وقد أعلن الناطق العسكري الإسرائيلي، أوائل أبريل، عن تراجع جوهري في عدد الهجمات الفلسطينية.
وقد دأب المسؤولون الأمنيون والعسكريون الإسرائيليون على الإشادة بجهود التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، ودورها في وضع حد لتدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية، واستمرار استهداف الجنود والمستوطنين، حتى بلغ عدد اللقاءات الأمنية بين الجانبين 140 لقاء منذ العام الماضي 2015، وحتى كتابة هذه السطور، حيث تجري الاجتماعات بين ضباط فلسطينيين وإسرائيليين بصورة اعتيادية. وعلى الرغم من التوتر السياسي والميداني بين الجانبين، تواصل أجهزة الأمن الفلسطينية تنسيق عملياتها مع جهاز الشاباك والجيش الإسرائيليين، وتساعدهما لمنع تنفيذ عمليات مسلحة كبيرة ضد الإسرائيليين. ونجحت الأجهزة الفلسطينية في إحباط عشرات المحاولات من العمليات الفلسطينية، الفردية منها والمنظمة.
يمكن تقسيم هذه اللقاءات الأمنية الـ140 إلى 80 لقاء أمنيا بين الجانبين على مستوى قادة ألوية، و60 لمناقشة قضايا تفصيلية ميدانية، عقدها الجانبان منذ اندلاع الانتفاضة أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2015، كما أن جزءا أساسياً من إحباط الأجهزة الأمنية الفلسطينية للعمليات المسلحة كان بفضل معلومات استخبارية، أوصلها "الشاباك" إلى السلطة الفلسطينية، وجزءاً آخر بمبادرة من السلطة نفسها وأجهزتها الأمنية، مثلما حصل لدى اعتقالها شباناً فلسطينيين كتبوا على "فيسبوك" أنهم يريدون تنفيذ عمليات مسلحة ضد إسرائيل.
جهود الجيش والشرطة
منذ اللحظة الأولى لاندلاع انتفاضة القدس، قررت قوات الجيش الإسرائيلي والشرطة أن تدخل إلى قلب الأحياء العربية في القدس والضفة الغربية، بمساعدة من القوات الخاصة، واعتقال ما يزيد عن ثلاثة آلاف فلسطيني، وتعزيز هذه القوات بعناصر حرس الحدود، وإقامة مواقع أمنية عسكرية وشرطية جديدة، بما فيها جنود وضباط الاحتياط الذين يتم تجنيدهم عند الحاجة.
كما بذلت قوات الأمن الإسرائيلية جهوداً حثيثة في ملاحقة ما وصفته "التحريض" عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تجري فحصاً دورياً لهذه المواقع، لتشخيص المحرّضين ومنفذي العمليات المتوقعين، من أجل إحباط العمليات المسلحة وخرق القانون.
وربما أن تقييماً أمنياً ميدانياً إسرائيلياً للعمليات الفلسطينية، منذ أوائل مارس الماضي، يشير إلى أن عدة هجمات من الطعن والدعس في كل يوم لم تعد تشكل مصدر توتر كبير بين الإسرائيليين، لأن منفذيها، في معظمهم، دفعوا حياتهم ثمناً لها وليس الإسرائيليين، حتى إن أحد التقييمات الأمنية الإسرائيلية ذكر أن حقبة "العمليات الانتحارية" انتهت، وما لدينا اليوم من حالة لا تشبه "المسلحين الانتحاريين"، وإنما تشبه "الانتحاريين العاديين"، وهم أفراد يضعون حدا لحياتهم.
ولعل السبب الرئيس في تراجع عدد العمليات الفلسطينية قدرة الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيلي على إحباط عديد منها قامت جميعها بحملات اعتقالات كبيرة في أوساط المشتبه بانضمامهم لخلايا مسلحة خطيرة. وفي ظل السيطرة الإسرائيلية الكاملة في مدن الضفة الغربية، من دون إزعاج من أحد، يبدو أن قدرة الفلسطينيين على تنفيذ عمليات نوعية خطيرة تراجعت إلى الحد الأدنى، بجانب النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها سياسة هدم منازل الفلسطينيين منفذي العمليات، وما حققته من ردع إسرائيلي للآخرين.
مع العلم أن الاجتماعات المغلقة للمؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل شهدت طرح عشرات من العقوبات ضد الفلسطينيين، منها إبعاد عائلات منفذي العمليات الفلسطينية إلى قطاع غزة، وهدم منازل منفذي العمليات فور تنفيذ العملية، ووقف تمويل السلطة الفلسطينية، طالما أنها تواصل التحريض على العمليات، عبر قنوات التلفزة الرسمية، وعدم منح الفلسطينيين تصاريح عمل داخل إسرائيل.
وقد جاءت إجراءات الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية ضد الانتفاضة رغبة منها بالذهاب إلى حلول جذرية لاستئصال البنية التحتية لهذه الموجة، من خلال إحباط هذه العمليات، قبيل أن تصل الأراضي الإسرائيلية، وضرورة أن يفهم الفلسطينيون أن ثمن تشجيع العمليات ودعمها غير قابل للتحمل من طرفهم، سواء لعائلاتهم أو الأحياء التي يقطنون فيها.
اختلاف الفلسطينيين
تُبدي إسرائيل تقديرا مفاده بأن الفلسطينيين وصلوا إلى قناعةٍ بأن الهبة الفلسطينية ليس لها جدوى سياسية، لأنها لم تحدث تأثيراً في الرأي العام الإسرائيلي، ولم تستطع إحداث ضجة في المجتمع الدولي، وهو ما اتضح في التراجع في حجم التحريض الإعلامي الفلسطيني على تنفيذ العمليات، وتعاوناً واضحاً بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بعكس ما كانت عليه الانتفاضتان الأولى والثانية، حيث حظيتا بدعم القيادة الفلسطينية في حينهما، لكن اليوم حركة فتح التي كلفها الرئيس الراحل ياسر عرفات بالانخراط في الانتفاضة الثانية لم تشارك بصورة فعالة في هذه الموجة التي اندلعت في أكتوبر الماضي.
ولذلك، جميع المظاهرات الفلسطينية متفرقة وغير منظمة، قياساً بالماضي، فهناك عشرات أو مئات من الشبان المشاركين فيها، مقابل عشرات الآلاف الذين كانوا ينضمون لمثيلاتها في الانتفاضتين الأولى والثانية، كما أن الجمهور الفلسطيني لا يبدو منخرطاً في موجة العمليات الحالية، في ضوء أن عدد تصاريح العمل للعمال الفلسطينيين داخل إسرائيل لم ينخفض، بسبب ما تقول إسرائيل إنها قناعة لدى الرأي العام الفلسطيني، تفيد بأن موجة جديدة من العمليات لن تنقله إلى مكان أفضل.
كما أن التصريحات التحريضية الصادرة عن السلطة الفلسطينية لدعم الانتفاضة تراجعت كلياً، والتنسيق الأمني الإسرائيلي مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية يجري بصورةٍ هي الأعلى منذ فترة طويلة، وربما أن السلطة الفلسطينية تقوم بذلك، ليس حباً في إسرائيل، بل خشيةً وخوفاً من حركة حماس، فما زال قادة فتح في الضفة الغربية يستحضرون، في كل مناسبةٍ، أحداث سيطرة حماس على قطاع غزة أواسط 2007. ولذلك، تقوم السلطة الفلسطينية بعمل كل شيء، حتى لا تسيطر حماس على الضفة الغربية، على حد تعبيرها.
تبذل حماس، من جهتها، جهوداً لإشعال الوضع في الضفة الغربية ضد "إسرائيل"، وصولاً به إلى تنفيذ عمليات استشهادية واختطاف جنود إسرائيليين، ما سيعني، بالضرورة، ذهاب الاحتلال إلى تنفيذ عملية جديدة من "السور الواقي" التي نفذها عام 2002 في ظروف مشابهة في الضفة الغربية. وهذا قد لا يصب بالضرورة في صالح السلطة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، تبدو حماس معنية أكثر، من أي وقت مضى، بعدم الزج في قطاع غزة، حيث تسيطر هناك، في أي مواجهة مع إسرائيل، خشية استدراجها إلى حربٍ رابعة.
الملفت أنه بالنظر إلى التراجع التدريجي في عدد العمليات الفلسطينية، يظهر أن استعدادات حماس لتنفيذ عمليات اختطاف وعمليات انتحارية، وصلت إلى ذروتها في هذه الآونة، وقد أحبطت قوات الأمن الإسرائيلية، في الشهور الأخيرة، عشرات من العمليات التي تخطط لها الحركة على هذه الشاكلة.
المفاوضات السياسية والأمنية
أيقن المستوى الأمني والعسكري في إسرائيل، منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة الحالية، أنه من أجل وقف هذه الموجة من العمليات الفلسطينية، فإن ذلك يتطلب من إسرائيل الذهاب إلى عملية سياسية مع الفلسطينيين، لوقف حالة التصعيد الميداني، خصوصاً أن الانتفاضة وصلت إلى مرحلةٍ لم تعد فيها الحلول العسكرية قادرة على وقفها، ولا بد، في نهاية الأمر، من عملية سياسية شاملة، تشمل خطوات أحادية لتهدئة الخواطر بين الفلسطينيين والإسرائيليين. علماً أن بعض العمليات الفلسطينية التي حصلت في المرحلة الأولى من الانتفاضة، لاسيما مع الاستخدام المتزايد للسلاح الناري، أشعلت الأضواء الحمراء لدى صناع القرار الإسرائيلي، لأنها أعطت الانطباع الواضح بأننا أمام انتفاضةٍ ثالثةٍ، تتجاوز هجمات السكاكين لمنفذين وحيدين، وصولاً إلى تشكيل المجموعات المسلحة المحلية بين الفلسطينيين، مع العلم أن هذه مرحلة خطيرة وفتاكة، مع العلم أن التجارب التاريخية بين الإسرائيليين والفلسطينيين تؤكد أن هذا تطور طبيعي وحتمي، ويعني الدخول في مرحلة حروب العصابات والاستنزاف، في ضوء توفر أرضية شعبية مؤيدة لها بين الفلسطينيين، ما يعني سقوط مئات القتلى من الجانبين.
ووصل الأمر بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى مناقشة انسحاب الجيش الإسرائيلي التدريجي من مدينتي رام الله وأريحا، ثم الانسحاب التدريجي من باقي مناطق "أ" في الضفة، في حال نجحت السلطة في القضاء على الانتفاضة، وإبداء قدر أكبر من العمل الأمني ضد أي بوادر لتشكيل خلايا فلسطينية مسلحة.
أخيراً.. على الرغم من أن تقدير الموقف الأمني الإسرائيلي الوضع مع الفلسطينيين يشير إلى وجود نجاحات ملموسة بتخفيض حجم العمليات، إلا أن هناك استمرارا في الإنذارات للعمليات الفردية، وقد تستعد إسرائيل لإمكانية اندلاع موجة جديدة من الهجمات، وسيتم نشر 21 كتيبة عسكرية في الضفة الغربية، بالتزامن مع احتفالات إسرائيل بيوم الاستقلال وعيد الفصح وشهر رمضان، ما يجعلها لا تسارع بالإعلان عن نهاية موجة العمليات الحالية، على الرغم من توفر مؤشراتٍ ميدانية، تجعل هذه الانتفاضة خلف ظهورنا. وفي الوقت نفسه، هناك مؤشرات أخرى قد تعطي الإسرائيليين نتائج معاكسة، وهي أخبار لن تكون سارّة لهم.
اندلعت الانتفاضة إذن، وبدأ الشبان والفتيان الفلسطينيون ينفذون عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار ضد الجنود والمستوطنين في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية والقدس المحتلتين وفلسطين 1948، وباتت الأرقام والمعطيات الإحصائية تشير إلى أننا بصدد موجة تتصاعد وتتراجع من الهجمات، لكنها مستمرة في كل الأحوال، على الرغم من الجهود الإسرائيلية لإحباطها من دون جدوى، حتى الشهور الخمسة الأولى مع أوائل فبراير/شباط 2016.
لم يعد هناك كثير شك في أن موجة العمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين، أو "انتفاضة القدس"، باتت تواجه تعثراً حقيقياً منذ أوائل فبراير/شباط الماضي، ويمكن الحديث عن حالة من التراجع الملموس والتدريجي لهذه العمليات للشهر الثالث على التوالي، حيث نعيش النصف الأول من مايو/أيار الحالي، وهو ما يطرح تساؤلات وتفسيرات كثيرة لهذا التراجع، الذاتية والموضوعية.
مؤشرات الإحصائيات الرقمية
أظهرت إحصاءات الجيش الإسرائيلي أنه، بعد مرور نصف عام على اندلاع الانتفاضة ضد إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، وتحديدا بين أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2015 ونهاية مارس/آذار 2016، بلغت الهجمات الفلسطينية 168 هجمة في الضفة الغربية، ضد الجنود والمستوطنين، إضافة إلى 39 عملية في القدس وداخل الخط الأخضر، ومن بين هذه العمليات هناك 54 عملية إطلاق نار، بينها 16 استهدفت مستوطنين، و84 عملية طعن بالسكاكين، منها 64 ضد الجنود، و30 عملية دعس بالسيارات، 25 منها ضد الجنود والباقي ضد المستوطنين.
وشهد شهر أكتوبر العدد الأكبر من الهجمات الفلسطينية في أثناء هذه الهبة بعدد 44 هجمة. ومنذ ذلك الشهر، بدأ الانخفاض التدريجي في عدد العمليات، فشهد نوفمبر/تشرين الثاني 35 عملية، أما ديسمبر/كانون الأول فقد شهد 36 عملية، وتواصل التراجع في عدد العمليات حتى وصل في مارس/آذار إلى 10 عمليات فقط.
وحسب إحصائية جيش الاحتلال، نفذت غالبية العمليات بعدد 127 من أصل 168 عملية ضد الجنود المنتشرين في المناطق الفلسطينية، و83% من عمليات الدعس بالسيارات، و76% من هجمات الطعن بالسكاكين توجهت ضد الجنود، في حين أن 39 من العمليات التي وقعت في القدس نفذها فلسطينيون من سكان القرى المنتشرة في الضفة، بالتزامن مع التراجع في عمليات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على قوات الجيش، حيث شهد أكتوبر/تشرين الأول 530 عملية إلقاء حجارة و442 زجاجة حارقة، فيما شهد مارس/آذار 185 عملية إلقاء حجارة وزجاجة حارقة فقط. ومنذ بداية 2016 وقعت 664 عملية إلقاء حجارة، و484 مظاهرة فلسطينية، و79 عملية إلقاء زجاجة حارقة، و48 عملية مسلحة.
ويبدو شهرا مارس/آذار الماضي، والنصف الأول من أبريل/نيسان، الأكثر هدوءًا في موجة العمليات التي اندلعت قبل ستة أشهر، حيث شهدت الـ45 يوماً تنفيذ خمس عمليات إطلاق نار في الضفة والقدس المحتلتين، وثماني عمليات طعن وعمليتي دعس، مقابل سبع عمليات إطلاق نار، و14 عملية طعن، وعملية دعس واحدة شهدها فبراير/شباط.
تعطي هذه المعطيات الرقمية مؤشراً جديراً بالدراسة بأن الانتفاضة الحالية وموجة عملياتها ربما تكون في طريق نهايتها، لاسيما وأنه يترافق مع تراجع في عدد القتلى الإسرائيليين، فمن بين 33 قتيلاً إسرائيليا، قتلوا منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك قتيل واحد فقط سقط منذ أوائل مارس/آذار الماضي في يافا خلال عملية طعن!
دور التنسيق الأمني
منذ اندلاع موجة العمليات الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول 2015 وحتى أبريل/نيسان 2016، كشف جهاز الأمن الإسرائيلي العام "الشاباك" عن 57 مجموعة مسلحة في الضفة الغربية المحتلة، عشرة منها خطط أفرادها لتنفيذ عمليات اختطاف مستوطنين أو جنود، وفي أربع منها كشف عن مختبرات لصناعة المتفجرات، كانت تجهز أحزمة ناسفة، وقد أعلن الناطق العسكري الإسرائيلي، أوائل أبريل، عن تراجع جوهري في عدد الهجمات الفلسطينية.
وقد دأب المسؤولون الأمنيون والعسكريون الإسرائيليون على الإشادة بجهود التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، ودورها في وضع حد لتدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية، واستمرار استهداف الجنود والمستوطنين، حتى بلغ عدد اللقاءات الأمنية بين الجانبين 140 لقاء منذ العام الماضي 2015، وحتى كتابة هذه السطور، حيث تجري الاجتماعات بين ضباط فلسطينيين وإسرائيليين بصورة اعتيادية. وعلى الرغم من التوتر السياسي والميداني بين الجانبين، تواصل أجهزة الأمن الفلسطينية تنسيق عملياتها مع جهاز الشاباك والجيش الإسرائيليين، وتساعدهما لمنع تنفيذ عمليات مسلحة كبيرة ضد الإسرائيليين. ونجحت الأجهزة الفلسطينية في إحباط عشرات المحاولات من العمليات الفلسطينية، الفردية منها والمنظمة.
يمكن تقسيم هذه اللقاءات الأمنية الـ140 إلى 80 لقاء أمنيا بين الجانبين على مستوى قادة ألوية، و60 لمناقشة قضايا تفصيلية ميدانية، عقدها الجانبان منذ اندلاع الانتفاضة أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2015، كما أن جزءا أساسياً من إحباط الأجهزة الأمنية الفلسطينية للعمليات المسلحة كان بفضل معلومات استخبارية، أوصلها "الشاباك" إلى السلطة الفلسطينية، وجزءاً آخر بمبادرة من السلطة نفسها وأجهزتها الأمنية، مثلما حصل لدى اعتقالها شباناً فلسطينيين كتبوا على "فيسبوك" أنهم يريدون تنفيذ عمليات مسلحة ضد إسرائيل.
جهود الجيش والشرطة
منذ اللحظة الأولى لاندلاع انتفاضة القدس، قررت قوات الجيش الإسرائيلي والشرطة أن تدخل إلى قلب الأحياء العربية في القدس والضفة الغربية، بمساعدة من القوات الخاصة، واعتقال ما يزيد عن ثلاثة آلاف فلسطيني، وتعزيز هذه القوات بعناصر حرس الحدود، وإقامة مواقع أمنية عسكرية وشرطية جديدة، بما فيها جنود وضباط الاحتياط الذين يتم تجنيدهم عند الحاجة.
كما بذلت قوات الأمن الإسرائيلية جهوداً حثيثة في ملاحقة ما وصفته "التحريض" عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تجري فحصاً دورياً لهذه المواقع، لتشخيص المحرّضين ومنفذي العمليات المتوقعين، من أجل إحباط العمليات المسلحة وخرق القانون.
وربما أن تقييماً أمنياً ميدانياً إسرائيلياً للعمليات الفلسطينية، منذ أوائل مارس الماضي، يشير إلى أن عدة هجمات من الطعن والدعس في كل يوم لم تعد تشكل مصدر توتر كبير بين الإسرائيليين، لأن منفذيها، في معظمهم، دفعوا حياتهم ثمناً لها وليس الإسرائيليين، حتى إن أحد التقييمات الأمنية الإسرائيلية ذكر أن حقبة "العمليات الانتحارية" انتهت، وما لدينا اليوم من حالة لا تشبه "المسلحين الانتحاريين"، وإنما تشبه "الانتحاريين العاديين"، وهم أفراد يضعون حدا لحياتهم.
ولعل السبب الرئيس في تراجع عدد العمليات الفلسطينية قدرة الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيلي على إحباط عديد منها قامت جميعها بحملات اعتقالات كبيرة في أوساط المشتبه بانضمامهم لخلايا مسلحة خطيرة. وفي ظل السيطرة الإسرائيلية الكاملة في مدن الضفة الغربية، من دون إزعاج من أحد، يبدو أن قدرة الفلسطينيين على تنفيذ عمليات نوعية خطيرة تراجعت إلى الحد الأدنى، بجانب النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها سياسة هدم منازل الفلسطينيين منفذي العمليات، وما حققته من ردع إسرائيلي للآخرين.
مع العلم أن الاجتماعات المغلقة للمؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل شهدت طرح عشرات من العقوبات ضد الفلسطينيين، منها إبعاد عائلات منفذي العمليات الفلسطينية إلى قطاع غزة، وهدم منازل منفذي العمليات فور تنفيذ العملية، ووقف تمويل السلطة الفلسطينية، طالما أنها تواصل التحريض على العمليات، عبر قنوات التلفزة الرسمية، وعدم منح الفلسطينيين تصاريح عمل داخل إسرائيل.
وقد جاءت إجراءات الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية ضد الانتفاضة رغبة منها بالذهاب إلى حلول جذرية لاستئصال البنية التحتية لهذه الموجة، من خلال إحباط هذه العمليات، قبيل أن تصل الأراضي الإسرائيلية، وضرورة أن يفهم الفلسطينيون أن ثمن تشجيع العمليات ودعمها غير قابل للتحمل من طرفهم، سواء لعائلاتهم أو الأحياء التي يقطنون فيها.
اختلاف الفلسطينيين
تُبدي إسرائيل تقديرا مفاده بأن الفلسطينيين وصلوا إلى قناعةٍ بأن الهبة الفلسطينية ليس لها جدوى سياسية، لأنها لم تحدث تأثيراً في الرأي العام الإسرائيلي، ولم تستطع إحداث ضجة في المجتمع الدولي، وهو ما اتضح في التراجع في حجم التحريض الإعلامي الفلسطيني على تنفيذ العمليات، وتعاوناً واضحاً بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بعكس ما كانت عليه الانتفاضتان الأولى والثانية، حيث حظيتا بدعم القيادة الفلسطينية في حينهما، لكن اليوم حركة فتح التي كلفها الرئيس الراحل ياسر عرفات بالانخراط في الانتفاضة الثانية لم تشارك بصورة فعالة في هذه الموجة التي اندلعت في أكتوبر الماضي.
ولذلك، جميع المظاهرات الفلسطينية متفرقة وغير منظمة، قياساً بالماضي، فهناك عشرات أو مئات من الشبان المشاركين فيها، مقابل عشرات الآلاف الذين كانوا ينضمون لمثيلاتها في الانتفاضتين الأولى والثانية، كما أن الجمهور الفلسطيني لا يبدو منخرطاً في موجة العمليات الحالية، في ضوء أن عدد تصاريح العمل للعمال الفلسطينيين داخل إسرائيل لم ينخفض، بسبب ما تقول إسرائيل إنها قناعة لدى الرأي العام الفلسطيني، تفيد بأن موجة جديدة من العمليات لن تنقله إلى مكان أفضل.
كما أن التصريحات التحريضية الصادرة عن السلطة الفلسطينية لدعم الانتفاضة تراجعت كلياً، والتنسيق الأمني الإسرائيلي مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية يجري بصورةٍ هي الأعلى منذ فترة طويلة، وربما أن السلطة الفلسطينية تقوم بذلك، ليس حباً في إسرائيل، بل خشيةً وخوفاً من حركة حماس، فما زال قادة فتح في الضفة الغربية يستحضرون، في كل مناسبةٍ، أحداث سيطرة حماس على قطاع غزة أواسط 2007. ولذلك، تقوم السلطة الفلسطينية بعمل كل شيء، حتى لا تسيطر حماس على الضفة الغربية، على حد تعبيرها.
تبذل حماس، من جهتها، جهوداً لإشعال الوضع في الضفة الغربية ضد "إسرائيل"، وصولاً به إلى تنفيذ عمليات استشهادية واختطاف جنود إسرائيليين، ما سيعني، بالضرورة، ذهاب الاحتلال إلى تنفيذ عملية جديدة من "السور الواقي" التي نفذها عام 2002 في ظروف مشابهة في الضفة الغربية. وهذا قد لا يصب بالضرورة في صالح السلطة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، تبدو حماس معنية أكثر، من أي وقت مضى، بعدم الزج في قطاع غزة، حيث تسيطر هناك، في أي مواجهة مع إسرائيل، خشية استدراجها إلى حربٍ رابعة.
الملفت أنه بالنظر إلى التراجع التدريجي في عدد العمليات الفلسطينية، يظهر أن استعدادات حماس لتنفيذ عمليات اختطاف وعمليات انتحارية، وصلت إلى ذروتها في هذه الآونة، وقد أحبطت قوات الأمن الإسرائيلية، في الشهور الأخيرة، عشرات من العمليات التي تخطط لها الحركة على هذه الشاكلة.
المفاوضات السياسية والأمنية
أيقن المستوى الأمني والعسكري في إسرائيل، منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة الحالية، أنه من أجل وقف هذه الموجة من العمليات الفلسطينية، فإن ذلك يتطلب من إسرائيل الذهاب إلى عملية سياسية مع الفلسطينيين، لوقف حالة التصعيد الميداني، خصوصاً أن الانتفاضة وصلت إلى مرحلةٍ لم تعد فيها الحلول العسكرية قادرة على وقفها، ولا بد، في نهاية الأمر، من عملية سياسية شاملة، تشمل خطوات أحادية لتهدئة الخواطر بين الفلسطينيين والإسرائيليين. علماً أن بعض العمليات الفلسطينية التي حصلت في المرحلة الأولى من الانتفاضة، لاسيما مع الاستخدام المتزايد للسلاح الناري، أشعلت الأضواء الحمراء لدى صناع القرار الإسرائيلي، لأنها أعطت الانطباع الواضح بأننا أمام انتفاضةٍ ثالثةٍ، تتجاوز هجمات السكاكين لمنفذين وحيدين، وصولاً إلى تشكيل المجموعات المسلحة المحلية بين الفلسطينيين، مع العلم أن هذه مرحلة خطيرة وفتاكة، مع العلم أن التجارب التاريخية بين الإسرائيليين والفلسطينيين تؤكد أن هذا تطور طبيعي وحتمي، ويعني الدخول في مرحلة حروب العصابات والاستنزاف، في ضوء توفر أرضية شعبية مؤيدة لها بين الفلسطينيين، ما يعني سقوط مئات القتلى من الجانبين.
وفي محاولة منه لإحباط الانتفاضة، بلور الأمن الإسرائيلي سلسلة تسهيلات للسلطة الفلسطينية، وتقوية أجهزة أمنها، تتضمن منحها المزيد من الأسلحة، ومنح تصاريح العمل داخل الخط الأخضر، في ضوء التقدير الأمني الإسرائيلي القائل بأن تنفيذ هذه التسهيلات منوط بحصول تهدئة، رغم أن المستوى السياسي الإسرائيلي لم يتحمس للمصادقة على أية بادرة حسنة تجاه الفلسطينيين، خشية على انفراط عقد ائتلافه الحكومي.
ومع ذلك، عقد الجانبان، الفلسطيني والإسرائيلي، أواخر فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين، محادثات أمنية غير علنية، تضمنت تقديم سلسلة من التسهيلات في المجال الأمني والاقتصادي والبناء في الضفة الغربية المحتلة، منها المصادقة على طلبات قدمتها السلطة الفلسطينية للحصول على مركبات مدرعة وأسلحة وذخيرة، وإمكانية إطلاق سراح أسرى، غالبيتهم قضوا في السجون عشرات السنوات.ووصل الأمر بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى مناقشة انسحاب الجيش الإسرائيلي التدريجي من مدينتي رام الله وأريحا، ثم الانسحاب التدريجي من باقي مناطق "أ" في الضفة، في حال نجحت السلطة في القضاء على الانتفاضة، وإبداء قدر أكبر من العمل الأمني ضد أي بوادر لتشكيل خلايا فلسطينية مسلحة.
أخيراً.. على الرغم من أن تقدير الموقف الأمني الإسرائيلي الوضع مع الفلسطينيين يشير إلى وجود نجاحات ملموسة بتخفيض حجم العمليات، إلا أن هناك استمرارا في الإنذارات للعمليات الفردية، وقد تستعد إسرائيل لإمكانية اندلاع موجة جديدة من الهجمات، وسيتم نشر 21 كتيبة عسكرية في الضفة الغربية، بالتزامن مع احتفالات إسرائيل بيوم الاستقلال وعيد الفصح وشهر رمضان، ما يجعلها لا تسارع بالإعلان عن نهاية موجة العمليات الحالية، على الرغم من توفر مؤشراتٍ ميدانية، تجعل هذه الانتفاضة خلف ظهورنا. وفي الوقت نفسه، هناك مؤشرات أخرى قد تعطي الإسرائيليين نتائج معاكسة، وهي أخبار لن تكون سارّة لهم.