طز بالقائد

09 أكتوبر 2016

مقاتل سوري معارض وتمثال لحافظ الأسد في إدلب (28/3/2015/الأناضول)

+ الخط -
حدّثني صديقي الفنانُ التشكيلي، أسعد فرزات، عن رجلٍ مثقف جداً اسمه قاف، وصل إلى الصف الثالث في كلية الفلسفة، ومن كثرة ما كان يقرأ، ويطالع، ويتثقف؛ وجد أن ثقافته تجاوزت المناهجَ المقرّرة، وأنه لم يعد قادراً على المتابعة، وخطر له أن يَترك الدراسة، ويذهب إلى تأدية خدمة العلم، بقصد أن يُنهيها على نحو مبكّر من حياته، ليكسب الوقت ويتفرّغ لبحوثه ودراساته الفلسفية، مؤملاً أن يحتل مركزاً علمياً بين المشتغلين في الفلسفة وعلوم الاجتماع، أمثال الصادق النيهوم، وعبد الله العروي، ونصر حامد أبو زيد، إضافة إلى أساتذته الكرام، أحمد برقاوي وصادق جلال العظم ويوسف سلامة.
وكان قاف يعرف أنه، في هذه الحالة، سيؤدّي الخدمة العسكرية برتبة متدنّية (رقيب)، لكنه، إلى ذلك، فوجئ بأن موظف شعبة التجنيد أخطأ في تسجيل مستواه العلمي، فكتب أنه حاصل على الشهادة الإعدادية فقط، فذهب إلى الخدمة برتبةٍ أدنى (عريف).
كان ثمّة برنامج في إذاعة دمشق، تُعِدُّهُ الإدارة العامة للتوجيه المعنوي في الجيش والقوات المسلحة، يُجري مسابقاتٍ ثقافية بين القطعات العسكرية، فاختاره المشرفُ على الدورة، ليشارك بصفة متسابق عن (دورة العُرَفاء). وبالنظر إلى الثقافة العالية التي يمتلكها، انتهت المسابقة بحصول الدورة على المركز الأول، من دون منافسة تُذْكَر.
سُرَّ قائدُ الدورة بهذا الإنجاز، وأرسل برقيةً إلى قائد اللواء، أبلغه فيها بالنبأ المُفرح، فسُرَّ قائدُ اللواء، هو الآخر، وأمر بأن يشارك العريفُ الذكي ‏قاف‏، في المرة المقبلة، ممثلاً عن اللواء كله، وأن تقدم له نسخة من كتاب "حافظ الأسد قائد ومسيرة"، ليدرسه جيداً، فلربما تأتي أسئلة المسابقة الإذاعية من محتوياته.
وجد ‏تلميذ العريف قاف‏ في هذا التوجيه ذريعةً للتهرب من الدروس العسكرية والتوجيه السياسي. وهو، في الأساس، زاهد بمقرّرات كلية الفلسفة المهمة، فما بالك بهذه الترهات؟... وأقلع، كذلك، عن حضور دروس الرياضة، والتدريبات العسكرية، وحينما سأله قائدُ السرية، وهو برتبة نقيب: ما لك يا ‏قاف؟ لماذا لا تحضر دروس الرياضة؟ قال وهو يُبرز الكتاب: والله، يا سيدي، كلفني قائد اللواء بالدراسة، وما عندي وقت لأحكّ راسي. ولعلمك، سيدي، ستكون المسابقة الإذاعية على مستوى اللواء، وإذا وفقتُ بها ربما أُرَشَّحُ لأكون متسابقاً على مستوى الفرقة العسكرية كلها.
وصار ‏قاف‏، بعد هذا، يمشي في طرقات الكتيبة ومسالكها، حاملاً الكتاب مثل تلميذ مجتهد... إلى أن حصلت مفاجأةٌ عجيبة، فالنقيب قائد السرية انتظر حتى نزل الليل، وجاء إليه بسيارته "اللاندروفر"، وقال له: يا عريف قاف،‏ أريد منك أن ترافقني في مشوارٍ لأجل عمل مهم لمصلحة الكتيبة.
فصعد. وتوجه الاثنان، في السيارة، إلى حقل الرماية الذي يبعد حوالي ثلاثين كيلومتراً عن مقر الكتيبة، وحينما نزلا، طلب النقيب منه‏ أن يجلس قبالته على جرف صخري، وعندما جلس قال له:
- كيف دراستك؟
قال قاف قاف نون‏: ممتازة سيدي، إن شاء الله بدي أجي في المركز الأول وأرفع رأسكم، و...
قاطعه النقيب قائلاً: ترفع رأسنا؟ تضرب في رأسك، رأس الجحش.
وانتظر لحظة تابع فيها وقوع المفاجأة على قاف، ثم تابع: قلت لي إنك تدرس في كتاب ‏"الأسد قائد ومسيرة"‏؟ ولاك طز فيك وفي قائد المسيرة.
ذهل العريف ‏قاف مما قاله النقيب الذي تابع يقول:
- شوف ولاك. هنا لا يوجد شاهد علينا، ولذلك أكرر: طز فيك، وفي القائد حافظ الأسد، وإذا ما عجبك الكلام أخبر ضابط الأمن بما تريد، وحينما سنذهب أنا وأنت للتحقيق، سيصدقني أنا الضابط العامل، ولا يمكن أن يصدّقك أنت أيها العريف المجند، يا من قيمتك ربع ليرة في أحسن الأحوال. فماذا تقول؟
ابتسم العريف ‏قاف،‏ وقال: طز بالقائد.
وانفلتا، كلاهما، بضحك صافٍ طويلٍ، أخذ سكون الليل البهيم في حقل الرمي يردّده.
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...